بسم الله الرحمن الرحيم
السيمفونية التاسعة: أراد بتهوفن كتابة السيمفونية التاسعة في ثلاثة أقسام متتالية، و حتى عام 1823م كانت الخطوط العامة للحركة الختامية، و التي اعتمد في ذلك على ما دونه في مسودة كراساته الموسيقية طوال عشر سنوات، تشير إلى أنها ستكون آلية بحتة.و لكن في صياغتها النهائية مع الكورس الغنائي المختلط إضافة إلى الأصوات الغنائية الأربعة الرئيسة جاءت عملا لا يجارى و يختلف عن كل ما قدم من قبل وفق الشكل السيمفوني على يد الكلاسيكيين و من سبقهم.
و هذا التوسع الغنائي في ختام السيمفونية التاسعة جاء تجسدا و توضيحا للمضمون الآلي للحركات الثلاث. و ساعده هذا على مخاطبة الناس مباشرة –و إن كان لا يسمعهم- حول ما كان يشعر به في أعماقه و ملء إحساسه.
و لم يكن هذا إلا متوقعا من بتهوفن الذي كتب قبل هذا أعمالا فريدة من نوعها مثل السيمفونية الثالثة (البطولة) و الخامسة (القدر) و السادسة (الطبيعة) و أوبرا فيدليو، و غير ذلك. إن علاقة بتهوفن بالشاعر شيللر تعود إلى سنوات شبابه عندما كان طالبا في جامعة بون، و آنذاك عزم على تلحين المقطع المعروف باسم (نشيد السعادة) من شعر هذا الشاعر.
و تمكن بتهوفن في السنوات الأخيرة من عمره الغني بالتجارب و الخبرات أن يجد الشكل الموسيقي الواضح الذي يستطيع بواسطته التعبير عن مضمون الأخوة و الحب، و كل القيم الإنسانية بأوسع أشكالها. و كان هذا الشعور أقوى من حياته التراجيدية المؤلمة التي كان يعيشها، حيث فقد الفنان الموسيقي الكبير في منتصف حياته أعز ما يملكه المؤلف الموسيقي، و حرمه نهائياً من سماع ما كان يطمح في تلحينه من شعر شيللر، الذي يقول فيه:
كفوا أيها الإخوان عن هذا الأنين
و ارفعوا الصوت باللحن السعيد
فشعلة السعادة لا تطفئها السنون
و إلى أن يقول:
لنعش كالشمس المشرقة مبتهجين
و لنسرع الخطى عبر الطريق
كالجنود البواسل الظافرين
ابعثوا بالحب طاهراً صوب الملايين
و بقبلات السلام حول العالمين
و لاشك أن بتهوفن وجد صعوبة في إدماج الأصوات مع الآلات الأوركسترالية بدون أن تبدو دخيلة عليه، و رغم ملائمة النشيد فكرة السيمفوني. لكنه نجح في ذلك حيث أخذ بسحب آلات الأوركسترا واحدة تلو أخرى حتى لم يبق صوت آلة الجلو –و هي الآلة المقابلة لصوت الباريتون من حيث مجالها النغمي- فتعزف آلة الجلو (الفيولنسيل) عند ابتداء النشيد جملة لحنية محددة و يتبعها الغناء بطبقة الباريتون للجملة الموسيقية السابقة، مع استعمال مقاطع البيت الشعري الأول للنشيد. و بمجرد دخول أول صوت تصبح الأصوات الباقية سهلة طليعة. كل صوت يدعو الآخر حتى إذا ما كانت تسمع الأصوات مهللة هاتفة بنشيد السعادة لشيللر، تدعمها و تتوافق معها آلات الأوركسترا و أصوات المجاميع الغنائية الأربعة الرئيسة.
إن الجملة اللحنية الرئيسة لنشد السعادة أصبحت نشيدا وطنيا للأمة الألمانية، كما باتت السيمفونية التاسعة من المؤلفات الأساسية التي تقدم في نهاية كل عام ميلادي سواء في قاعات الكونسرت أو من خلال محطات الإذاعة و التلفزيون، كدعوة صادقة لبني البشر إلى العيش الرغيد بحب و سلام و عمل دائم..