بسم الله الرحمن الرحيم
السيمفونية الخامسة (القدر): إن السيمفونية الخامسة (القدر) تتشابه من النظرة العامة من حيث المحتوى بافتتاحية إغمونت حيث أن كلا العملين يرمزان إلى انتصار الإنسان و الأفكار الخيرة. فمحتوى الافتتاحية – أي افتتاحية إغمونت- التي هي في الأصل مقدمة موسيقية لمسرحية الشاعر جوته، ما هو إلا تمجيد لأفكار الحرية، و صور لمسالك النضال و الكفاح من الظلم و الاضطهاد إلى النصر، أما محتوى السيمفونية الخامسة فقد وسع هذا المفهوم التاريخي الثابت بجعله شاملاَ، يتضمن أوجه النضال و الكفاح الإنساني.
لقد وصف الفيلسوف نيتشه سيمفونية بتهوفن الخامسة، التي تبدأ بثلاث ضربات قصيرة متلاحقة تتبعها رابعة طويلة، بقوله:
(( إن السيمفونية تحمل جميع مشاعر الإنسانية السامية ))
أما بتهوفن نفسه فقد عبر عن هذه الضربات الثلاث القصيرة المتلاحقة و الرابعة الطويلة بقوله:
(( هكذا يدق القدر على الأبواب ))
و بعد سنوات قليلة أصبحت هذه الدقات بذاتها، دقات القدر المنتصر دائماً، تدل على الحرف (V) الإنكليزي في اختراع العالم موريس لآلة التلغراف، دلالة على أول حرف في كلمة النصر (فيكتوري).
و بنى المؤلف بتهوفن الحركة الأولى من سيمفونيته الخامسة على هذه الدقات الأربع. و من تلك الدقات المتتابعة الأربع التي تمثل الجملة اللحنية الإيقاعية الأساسية، أو الموتيف الأساسي، و الجملة الموسيقية المضادة لها كون بتهوفن حركة موسيقية متكاملة فنياً ضمن الشكل السيمفوني، و تعد بناءاً و مضموناً من روائع الأدب الموسيقي الكلاسيكي.
بعد الحركة الأولى الدراماتيكية للسيمفونية تأتي الحركة الثانية البطيئة لتحتل موقعاً خاصاً متميزاً بين الحركة الأولى و الحركة الثالثة و الرابعة الأخيرة، كما جاءت ألحانها مصاغة بتلك الطريقة المحببة له المعروفة باسم (طريقة التنوعات اللحنية)، حيث ينتقل بلحنها الرئيس من سلم موسيقي لآخر ببراعة أستاذية
.
لقد قلب الفنان بتهوفن بناء الحركة الثالثة في سيمفونياته، و اختط بذلك طريقاً مغايراً لإنجازات هايدن و موزارت، و ذلك إبتداءاً من سيمفونيته الثالثة. و الحركة الثالثة عند بتهوفن تسمى باسم شخرتسو، و تعني النكتة أو المزاح، أي أن في الحركة الثالثة شيئاً من المرح و الدعابة. على ما أنها كانت في السابق تسمى (منويت)، و تعني اسماً لرقصة معينة ثلاثية الإيقاع ذات شيوع واسع.
في السيمفونية الخامسة لبتهوفن لم يبق من معنى شخرتسو سوى الحركة و القوة أما المزاح فلا أثر له، فالحركة مليئة بالأسرار و الخوف و كأن بتهوفن تخوّف مواجهة الحقيقة و مجابهة ضربات القدر، الذي لا مفر منه. و لأوّل مرّة هنا يدمج بتهوفن الحركة الثالثة بالحركة الرابعة من السيمفونية. فالموسيقى يجب ألا تتوقف بل تستمر و تنتقل من رعب إلى فزع و ركض. فالأصوات تجري متلاحقة كأن الشياطين من خلفها تلهبها. ثم يبدأ هذا الظلام بالتلاشي حتى نجد أنفسنا في خضم الحركة الرابعة الأخيرة، ثم تتابع ألحانها لتنتهي منتصرة كما بدأت. و لتصبح بالتالي رمزاً لإرادة الإنسان القوية و انتصار الأفكار الخيرة.
لقد أشغلت السيمفونية الخامسة في سلم دو الصغير تسلسل 67 الفنان بتهوفن عشر سنوات، و قضى في تأليفها أربع سنوات إبتداءاً من سنة 1804م و حتى 1808م. و استطاع بتهوفن أن يحقق فيها أمنية أستاذه هايدن الذي تنبأ بضرورة استبدال الحركة الثالثة للشكل السيمفوني المعروف باسم (المنويت) شكلاً و محتوى، فقد كان الفنان هايدن يتمنى:
(( أن يبعث الله منويتاً جديداً فالموسيقى أوشكت أن تبلى ))