وكأننا في السابع والعشرين ديسمبر على موعد مع الحزن والمأساة , ففي مثل هذا اليوم من العام 1978 , كان الرحيل المبكر للقائد العربي الكبير الرئيس الجزائري هواري بومدين باسمه الثوري الحركي , أو " محمد بوخروبة " باسمه الحقيقي الذي لا يعرفه إلا القلائل , وفي ذات اليوم من العام 2008 , كانت الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة , والتي حصدت أكثر من 1400 شهيد , وأكثر من خمسة آلاف جريح , ودمرت 20 ألف منزل , في مشهد لم تشهده المنطقة منذ احتلال 1967.. هذا من باب الذكرى والتاريخ فقط , وأردت فقط أن أربط ذكرى بومدين بما يحدث في فلسطين , لأن بوصلة الهواري كانت دائما فلسطين , وكان يعتبر الثورة الفلسطينية الابن الشرعي لثورة التحرير الجزائرية , أو توأمها الذي ولد بعد تحرير الجزائر بعامين , فهو صاحب المقولة المشهورة " نحن مع فلسطين ظالمة ومظلومة " , وذلك في رد على ما تعرضت له الثورة الفلسطينية من ظلم في الحرب الأهلية في لبنان , وما تعرض له الشعب الفلسطيني من مذابح في تل الزعتر ومخيمات بيروت وجنوب لبنان , في عامي 1975 و 1976 , ومحاولات للقضاء على قواعد الثورة ومنظمة التحرير , ومحاولات انتزاع القرار الوطني الفلسطيني المستقل , من يد المنظمة وقائدها الراحل ياسر عرفات الصديق الحميم للهواري , والذي قال عنه أبو عمار وهو يشارك في جنازته بالجزائر العاصمة إنه " شهيد فلسطين ".
لم يكن بومدين شخصا عاديا , أو قائدا عابرا في تاريخ الجزائر , أو رئيسا كباقي الرؤساء , بل كان زعيما بمعنى الكلمة, فقد تمتع الراحل الكبير بـ " كاريزما " القائد والزعيم , وكان صارما في قيادته العسكرية وفي إدارته السياسية , تسلم أول وزارة للدفاع بعد الاستقلال , وكان عليه بناء جيش قوي ومنظم يخلف جيش التحرير الذي شارك في بنائه , فكان الجيش الوطني الجزائري سليل جيش التحرير مثالا للانضباط والالتزام , من أجل تثبيت مهمة الأمن في بلاد خرجت لتوها من براثن الاستعمار , وعندما رأى أن القيادة السياسية التي تسلمت الحكم من الإدارة الفرنسية , غير قادرة على تسيير البلاد بسبب الصراعات بين أجنحة الحكم ومراكز القوى , كان القرار الأصعب ولأصوب لإنقاذ البلاد قبل وقوع الفتنه , فكان تحركه لاستلام الحكم بالحركة التصحيحية في التاسع عشر من يونيو عام 1965 , وتشكيل مجلس قيادة الثورة الذي باشر تحت قيادة الهواري في تسيير البلاد , ونقلها من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة , حيث اختار الاشتراكية منهجا اقتصاديا واجتماعيا لإنصاف أبناء الجزائر الفقراء , الذين حرموا من خيرات بلادهم , فكانت الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة الثقافية , واستطاع في فترة حكمه القصيرة بناء ألف قرية زراعية لصغار الفلاحين , وأنشأ أضخم المصانع , واتجه لخطة التعريب من أجل نزع ثقافة المستعمر , فكانت المدرسة العربية التي ساهم الأشقاء العرب من مصر وسوريا وفلسطين والعراق , في تربية وتعليم النشء الجزائري لغته العربية , ودينه الإسلامي , لأن بومدين كان يؤمن بمقولة شيخ النهضة الجزائري الشيخ عبد الحميد بن باديس " شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب " .
هذا النسب والانتماء العربي الذي كان يؤمن به الطالب " محمد بوخروبة " عندما كان يتلقى علومه العربية والإسلامية في الأزهر الشريف بالقاهرة , ظل راسخا في عقيدة الزعيم والقائد هواري بومدين , وكان الاختبار الأول إثر العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في مصر وسوريا والأردن عام 1967 , واحتلال صحراء سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة , ويومها أعلن الهواري وضع كل إمكانات الجزائر الاقتصادية والعسكرية , تحت أمرة قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر , الذي كان الرئيس بومدين يكن له كل التقدير والاحترام ويرى فيه قائدا للأمة العربية , وسافر بومدين إلى موسكو من أجل إعادة تسليح الجيش المصري , وقام بدفع الديون المصرية , ووصلت القوات الجزائرية إلى الأراضي المصرية , لتشارك في حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية في قناة السويس إلى جانب الجيش المصري , الذي بدأ عبد النصر بإعادة بنائه في انتظار معركة التحرير , لكن الظروف لم تمهله , وكان الرحيل الغامض للزعيم القومي جمال عبد الناصر عندما كان يعقد قمة عربية في القاهرة , للبحث في أحداث أيلول الأسود , والمؤامرة على الثورة الفلسطينية في الأردن , والقضاء على قواعدها في الأحراش والأغوار , وإبعادها عن خط المواجهة مع إسرائيل , لينضم عبد الناصر إلى قائمة العظماء من شهداء فلسطين.
وبرحيل عبد الناصر أصبح هواري بومدين , الخليفة الحقيقي لزعامة الأمة العربية , وبدأ ثقل المسؤولية على الزعيم القومي , الذي كان يبني بلاده بيد , ويمد اليد الأخرى لأشقائه في الوطن العربي , دون أن ينسى انتماءه الإفريقي , حيث الدعم الجزائري لحركات التحرر في إفريقيا , لكن الدعم الأول والأخير كان للثورة الفلسطينية , ففتح الهواري أبواب كلياته العسكرية لتدريب ثوار فلسطين , وكان بواخره وسفنه تنقل الأسلحة إلى موانئ بيروت واللاذقية لتصل إلى قواعد الفدائيين في الجولان وجنوب لبنان, وكانت العلاقة الأخوية والثورية المتميزة مع القائد الرمز ياسر عرفات , ووقف بومدين إلى جانب فلسطين وثورتها بكل قوة ضد العدو , وضد كل المتآمرين من أبناء جلدتنا , ولا يمكن أن ينسى شعبنا الفلسطيني دعوة الرئيس الحالي للجزائر عبد العزيز بوتفليقة , الذي كان يشغل وزير خارجية الجزائر في عهد هواري بومدين , ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة , للزعيم ياسر عرفات لدخول الأمم المتحدة وإلقاء كلمة فلسطين لأول مرة من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك , في شهر نوفمبر عام 1974 , ويومها أقلته طائرة الرئاسة الجزائرية من العاصمة الجزائر إلى نيويورك .
هذه سيرة ومسيرة قصيرة نذكرها في ذكرى رحيل هواري بومدين بعد 31 عاما من وفاته المفاجئة والغامضة وهو في ريعان الشباب ( 46 عاما ) , ومازال الموت الذي غيب بومدين غامضا , وإن قيل الكثير عن قيام أجهزة مخابرات أجنبية بتسميم الرئيس بسم بطئ , لأنها كان ترى فيه عدوا لمصالحها في المنطقة , وزعيما استطاع أن يجمع حوله الأمة , وأن يقارع الاستعمار والامبريالية والصهيونية , في بلده وفي قارته ولدى أمته العربية والإسلامية , فكان قرار التخلص منه بهذه الطريق الدنيئة , ولم تفلح معها محاولات الأطباء السوفييت حينها , في علاج الجسد الذي أنهكه السم اللعين , الذي قد يكون نفس السم الذي قتل فيه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر , وربما يكون نفس السم الذي قتل به أيضا الزعيم ياسر عرفات , وهم ثلاثة زعماء لم تعرف الأمة العربية مثيلا لهم منذ قيام ثورة يوليو 1952 , وثورة نوفمبر 1954 , وثورة يناير 1965 , شهد لهم الجميع بروح الوطنية الصادقة , والقومية التي ترى في الأمة قوة ومنعة , لم يعرفوا متع الحياة , أو حياة الرفاهية , رجال كبار كبرت بهم دولهم , وقادة عظام عظمت بهم الأمة في وجودهم , وقي غيابهم , وحين شيعوا في جنازاتهم , خرجت الملايين في القاهرة والجزائر وفلسطين , في مشاهد قل أن تتكرر لغيرهم , فشعوبهم أحبتهم لأنه أحبوها , وضحوا من أجلها , لدرجة أنهم نسوا أنفسهم , عاشوا حياة الزهد , إلى درجة أنه لم يكن لأحدهم قصر أو بيت خاص به , فبيت عبد الناصر كان بيتا عاديا في حي حدائق القبة , أما بومدين فلم يترك لزوجته بيتا تعيش فيه من بعده , ولم يبن بيتا أو قصرا لأهله , وأبو عمار لا يعرف أي فلسطيني أين كان منزله , فقد كان يبيت في بيت الضيافة , أو في مكتبه .. هكذا هم الرجال الرجال القادة الكبار .. وعندما يغيب الكبار , فكل شيئ يصغر ويهون , ونأمل أن تكون للذكرى عبرة , لتنهض الأمة من كبوتها , وتعود لها سطوتها وقوتها , وبانتظار قائد عظيم الشتات فسلام على بومدين يوم ولد و يوم استشهد