القصيدة على الوحدة هي اختراعٌ نهضويٌّ بامتياز، ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليس لأنّ من قبلهم لم يكونوا لينشدوا قصائد على الوحدة أو على أيّ إيقاعٍ ما، لكنّ الفكرة من هذا القالب هو مزج ما هو صوفيّ أو ما هو ذكر مع ما هو دنيويّ، حيث كانت الدورة الإيقاعيّة تستخدم في إنشاد القصائد لتحافظ على النهج الجماعيّ في الأخذ والعطاء، أي الإنشاد والردّ في حلقة الذكر، لكن بعد هذا تمّ التعامل مع تلك الفكرة الصوفيّة البحتة بإقحام التخت، أي فرقة العزف، واللازمة العزفيّة والغنائيّة داخل العمل، أي مزج الموسيقى الصوفيّة بالدنيويّة ليشكّل قالباً لا يقلّ شأناً ويقف جنباً إلى جنبٍ مع قوالب مطوّرةٍ مثل الدور والتحميلة إلخ، وإليكم التفصيل.
القصيدة عل الوحدة بحسب الباحث نداء أبو مراد عملية التقاء بين نموذجين أساسيين في التقاليد الشرقية هما التلاوة واللازمة.
والمقصود من التلاوة هنا هو قالب تلاوة أو غناء القصيدة المرسلة أي تنغيمٌ مُرتَجلٌ لنصٍ بالعربيّة الفصحى دون دورة إيقاعية.
وهذا مثال لتلاوة قصيدة مرسلة بصوت الشيخ علي محمود
أما اللازمة، فهي ردة أو مذهب أي جملة لحنية تتكرر بعد فقرات معينة، يمكنها أن تكون غنائية أو عزفية. وفيما عُرف في القرن العشرين، فاللازمة هي الجملة العزفية التي تفصل بين فقرتين في أغنية أو في قالب عزفي وهي تصل الفقرات اللحنيّة بعضها ببعض.
أما في القصيدة على الوحدة، فالمقصود من اللازمة هو لازمة العواذل، وهي مقتبسة عن مذهب لدور "آه يا أنا" على مقام السيكاه والذي ليس له أي إثبات غير ذكره في الكتب التي زامنت عصر النهضة. يقول مذهب هذا الدور "آه يا أنا وايش للعواذل عندنا، قوم مضيع العُذّال وواصلني أنا". ويمكن غناء لازمة العواذل على مقامات مختلفة حسبما يتراءى لمن يُنشد القصيدة وعلى إيقاع الوحدة.
إليكم مثال عن لازمة العواذل بصوت بطانة أي مجموعة المنشدين من مقام البيّاتي وهو الأكثر شيوعاً في إنشاد القصيدة
إن تزاوج العاملين السابق ذكرهما(التلاوة واللازمة) أنجب لنا قالبا جديدا هو القصيدة الموقعة على الوحدة، وكان هذا القالب المنافس الأول لقالب الدور، خاصة في قفلة الوصلة
بحسب الباحث فريدريك لاغرانج، ان تلاوة القصيدة مصاحبةً بآلات هي ابتكار عصر النهضة بامتياز، ويضيف أن ارتجال القصيدة على الوحدة هي عملية تآلف بين الإيقاع الوزني الكلامي والإيقاع الدوري. وأن هذا القالب هو نصف مؤلَّف يعيد فيه المغني انتاج صيغٍ مختلفةٍ مخضعا تارةً الايقاع الكلامي إلى الايقاع الدوري وتارةً العكس، ويختم كل شطر على "دُم".
ترأس عبده الحامولي المرحلة الأولى للقصيدة في أواخر القرن التاسع عشر ثم تبعه يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسلامة حجازي وغيرهم الكثير. في هذه المرحلة وجود واضح وصريح للازمة العواذل في البداية كمقدمة للقصيدة، في الوسط كلازمة أي بعد فواصل معينة، وفي النهاية كخاتمة أي بعد انهاء تلاوة الأبيات. وفي تلك المرحلة التأسيسيّة كان ارتجال القصيدة محصوراً على خمسة مقامات هي: "راست، بياتي، سيكاه، صبا، حجاز" ثمّ ما لبث أن أُدخل العُشّاق والجهاركاه في مطلع القرن العشرين. نستمع بصوت الشيخ يوسف المنيلاوي إلى قصيدة "ألا في سبيل الله" من مقام البيّاتي والمسجّلة لشركة سمع الملوك المنبثقة عن "بكّا" عام 1905 على وجهٍ واحدٍ قياس 27 سم رقم 1257، ونلاحظ انتهاء المدّة المسموح بها على الوجه قبل محاولة الشيخ يوسف للقفلة حيث يقول آه يا أنا ولا يكمل وهذا لكون تلك القصيدة أوّل قصيدة سجّلها الشيخ أبو حجّاج وكونه حديث العهد جدّاً بالتسجيل.
ثمّ جاء أبو العلا محمد ببعض الإضافات، إذ قلّص دور لازمة العواذل لمصلحة العروض، وجعلها مقدمة عزفية فقط أو إسقاطها نهائيّاً في بعض الأحيان كما استخدم بعض المقامات الفرعيّة مثل النهوند والحجاز كار والسُزنَك راست إلخ، والأبرز في هذه المرحلة هو بداية الاتجاه نحو تثبيت إطار عام للجمل اللحنية.
إليكم قصيدة "كم بعثنا مع النسيم" بصوت الشيخ أبو العلا محمّد من مقام الراست والتي غنّاها الكثيرون من بعده على نفس الإطار اللحني وقد سجّلها لشركة بيضافون حوالي عام 1921 على وجهين قياس 27 سم رقم B-082169 B-082170
في هاتين المرحلتين كان التخت، أي مجموعة العزف المصاحبة، لإنشاد القصيدة على الوحدة مهمته مراسلة المغني أي مرافقته كظلّه وهو يقوم بارتجال الأبيات، والمحاسبة أي مجوابة المغني بصيغ عزفية مقتضبة مستوحاة من الجمل التي كان يقوم بغنائها. اختلفت هذه المهمّة في المرحلة التالية وهي مرحلة التثبيت الكامل للجمل الغنائية مع تلحين المقدمة وبعض اللوازم الداخلية حيث أصبحت مهمّة فرقة العزف تنفيذ إرادة الملحّن تنفيذاً شبه حرفيّ، ومثال على هذه المرحلة قصيدة "يا ناعما رقدت جفونه" نظم أحمد شوقي لحن وغناء محمد عبد الوهاب على أنّ عبد الوهّاب قد احتفظ لنفسه بهامش واسع من الارتجال رغم تثبيت اللحن وقد سجّلها لشركة بيضافون على وجهين قياس 25 سم تحميض على الكهرباء سنة 1932 رقم B-095364 B-095366.
بعد تلك المرحلة مع استثناءاتٍ قليلة، تمّ الاستغناء تماماً عن قالب القصيدة على الوحدة وتمّ إدراج النصّ الفصيح ضمن قوالب الغناء في منتصف القرن العشرين فأصبحت القصيدة تلحّن كالطقطوقة أو المونولوج أو أيّ شكلٍ من أشكال التلحين في ذلك الوقت.
شُكراً لحسن إصغائكم وإلى حلقةٍ قادمة من برنامج نظامنا الموسيقيّ.
أعدّ هذه الحلقة، غسّان سحّاب ومصطفى سعيد
التحميل من هنا :
اضغط على كلمة وديع
وديع