فاطمة نسومر .. أيقونة الكفاح النسوي الجزائري
الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والأبطال هم الذين يصنعون تاريخهم. ومثلما وجد أبطال من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم، فان كثيرين غيرهم لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا، لم يأخذوا حقهم من الشهرة في الذاكرة الشعبية، ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين، أو مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه.
في رمضان الماضي قدمنا سلسلة كان للرجال فيها حصة الاسد، وفي هذا العام نخصص مساحة لشخصيات مميزة من النساء اللواتي لم ينصفهن التاريخ، ومن اجل أولئك المغمورات في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
تقدم «لالة فاطمة نسومر» نموذجاً لكفاح المرأة الجزائرية ضد المستعمر الاجنبي، وتلخص تجربتها عطاء المرأة العربية المسلمة التي تضرب مثال التضحية والفداء من اجل الوطن والأرض. فهذه المرأة استطاعت أن تقهر أعلى الرتب العسكرية في الجيش الفرنسي الذي استعمر الجزائر لسنوات طويلة.
اتصفت لالة نسومر بأعلى درجات البطولة والشجاعة، وامتلكت قدرا عاليا من الدراية والحنكة والذكاء الخارق في قيادة المعارك العسكرية، مما مكنها من مواجهة عشرة جنرالات من عتاة القادة في القوات المسلحة الفرنسية التي غزت الأراضي الجزائرية، فلقّنتهم دروسا في البطولة والفروسية.
وتقديرا لدور فاطمة نسومر التاريخي أطلق اسمها على جمعيات نسائية، كما أُلفت حولها أعمال أدبية وفنية، وأطلقت الجزائر اخيرا اسمها على إحدى بواخرها العملاقة المُعدة لنقل الغاز تخليدا لذكراها. ورغم انها معروفة وذكراها محفوظة في ذاكرة بلدها الجزائر، لكن قصة كفاحها مجهولة لدى الكثيرين خارج بلدها.
نشأتها
ولدت فاطمة في عام 1830 وهو العام نفسه الذي حدثت فيه كارثة الاحتلال الفرنسي للجزائر.
رأت النور في قرية ورجة التابعة اليوم لبلدية أبي يوسف، دائرة عين الحمام، في ولاية تيزي وزو (100 كلم، شرق العاصمة الجزائر).
اسمها الحقيقي فاطمة سيدي محمد بن عيسى، ولقبت بــ «نسومر» نسبة إلى قرية نسومر، التي كانت تقيم فيها، و«لالة» لفظة توقير، تعني باللغة الأمازيغية «السيدة».
نشأت نشأة دينية في أسرة تنتمي في سلوكها الاجتماعي والديني إلى الطريقة الرحمانية، فأبوها سيدي محمد بن عيسى مقدم الشيخ الطريقة الرحمانية، وكانت له مكانة مرموقة بين أهله.
تفرغ للعبادة
تقدم لخطبة فاطمة نسومر الكثيرون، ورفضتهم واحدا تلو الآخر، ثم اضطرت تحت ضغط الأهل الى الزواج من يحيى ناث ايخولاف. وافقت عليه على كره منها، لكنها لما زُفّت إليه تظاهرت بالمرض، وأظهرت كأن بها مسًّا من الجنون فأعادها الى أهلها، ورفض أن يطلقها، فبقيت في عصمته طول حياتها.
وعلى اثر ذلك، تفرغت لحياة النسك والانقطاع والتفرغ للعبادة، وتفقهت في علوم الدين. وبعد وفاة والدها تولت أمور الزاوية الرحمانية، ووجدت نفسها وحيدة منعزلة عن الناس، فتركت قريتها وتوجهت الى قرية نسومر، حيث يقطن أخوها سي طاهر، والتي نسبت إليها وإلى هذه القرية نسبت النون في الأمازيغية للإضافة.
وكان لأخيها الأثر الكبير في حياتها لإلمامه بمختلف العلوم الدينية والدنيوية.
مقاومة الاحتلال الفرنسي
عندما غزت الجيوش الفرنسية الأراضي الجزائرية واحتلتها، هبّ الشعب الجزائري بكل فئاته وتكويناته وعناصره لمقاومة القوات الغازية، فشارك العرب والامازيغ جنبا الى جنب، واشترك في المقاومة أهل المدن وأبناء الريف وأهل العشائر.. كل بمجهوده، كما احتوت المقاومة الجزائرية على مختلف أنحاء البلاد، من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها الى شمالها.
وفي نموذج فاطمة نسومر تأكيد مشاركة المرأة الجزائرية إلى جانب رجال الجزائر في الكفاح الوطني الأسطوري، فقد كسرت لالة فاطمة نسومر، القاعدة بمقاومتها للاستعمار، بعد أن كانت تلك المقاومة مقتصرة على الرجال فقط، من أبناء الجزائر.
الزحف على بلاد القبائل
بعد احتلاله للعاصمة عقب معركة سيدي فرج، زحف الجيش الفرنسي على بلاد القبائل، وتصدى له سكان المنطقة في معركة «ثادميت» عام 1844، وقاوموا وجوده. لكن الفرنسيين، وبسبب الأعداد الهائلة من القوات الزاحفة، تمكنوا من التمركز في تيزي وزو (قصبة بلاد القبائل).
وفي سنة 1850 أطلق الشريف محمد بن عبدالله بوبغلة الثورة ضد المحتلين، فانضمت فاطمة نسومر الى ثورته، مع عدد من قادة العشائر وشيوخ الزوايا والقرى. وفي عام 1850، حاول الجنرال روندون دخول «الأربعاء ناث ايراثن» لكن المجاهدين الجزائريين ألحقوا به هزيمة منكرة.
وفي مواجهة وقعت في قرية تزروتس بين قوات الجنرال ميسات والسكان، كان على الجنرال الفرنسي أن يجتاز نقطتين صعبتين، هما: ثشكيرت وثيري بويران، وفي هذا المكان كانت لالة فاطمة نسومر تقود مجموعة من النساء واقفات على قمة قريبة من مكان المعركة، وهن يحمسن الرجال بالزغاريد والنداءات المختلفة، مما جعل الثوار يستميتون في القتال.
وفي تلك المعركة جرح القائد بوبغلة، فأنقذت فاطمة حياته، وقد طلبها للزواج، فلم تستطع لتعليق زوجها الأول عصمتها.
كما اشتركت فاطمة في معركة اخرى في 18 يوليو 1854 هزم فيها الفرنسيون وانسحبوا مخلفين أكثر من 800 قتيل و371 جريح.
اما أشهر معركة قادتها فاطمة نسومر فهي تلك التي خاضتها الى جانب الشريف بوبغلة في مواجهة الجيوش الفرنسية الزاحفة بقيادة الجنرال روندون وماهون، باعالي جبال تمزقيدة، حيث أبديا مقاومة بالغة، لكن عدم تكافؤ القوات عدداً وعدة اضطر الشريف بوبغلة الى الأخذ بنصيحة فاطمة نسومر للانسحاب نحو «بني يني».
الدعوة للجهاد
على اثر ذلك الانسحاب، دعا الشريف بوبغلة وفاطمة نسومر للجهاد العام، فاستجاب لهما شيوخ الزوايا ووكلاء مقامات الأولياء، فجندوا الطلبة والمؤيدين وأتباعهم واتجهوا نحو «واضية» لمواجهة زحف القوات الفرنسية التي يقودها القائد الفرنسي روندون، واستطاعوا إلحاق الهزيمة بها، وتمكنت فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي بيدها.
مجازر وإرهاب
على الرغم من الهزيمة التي منيت بها قواته، واصل روندون التغلغل في جبال جرجرة، فاحتل «عزازقة» عام 1854، وأنشأ معسكرات في كل المناطق التي تمكّن منها، وواصل هجومه على كل المنطقة.
ومع تغلغل الجيش الفرنسي في قلب البلاد واصلت فاطمة نسومر المقاومة، فحققت انتصارات بمناطق «يللتن» و«الأربعاء» و«تخبت» و«عين تاوريغ».
ادى نجاح فاطمة نسومر بضرب القوات الفرنسية الى الاستنجاد وطلب قوات إضافية، وبالمزيد من المجازر والإرهاب ضد الجزائريين العزل. ولجأت قوات الاحتلال إلى أسلوب التدمير والإبادة الجماعية، وقامت بقتل كل أفراد العائلات من دون تمييز، فاضطرت فاطمة على إثرها الى إعطاء الأوامر بالانسحاب بقواتها إلى قرية «تاخليجت ناث عيسو» ولتكوين فرق سريعة من المجاهدين لضرب مؤخرات القوات الفرنسية وقطع طرق المواصلات والإمدادات عليه.
حرب عصابات
أدت أساليب حرب العصابات التي اتبعتها فاطمة نسومر إلى ارباك قيادات القوات الفرنسية وعلى رأسهم الجنرال ماكماهون القادم من منطقة قسنطينة. وعلى اثر الضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة الجزائرية خشي من تحطم معنويات الجنود، فجند جيشاً قوامه 45 ألف جندي بقيادته شخصياً.
واتجه ماكماهون صوب قوات فاطمة نسومر المتكونة من جيش من المتطوعين قوامه 7 آلاف رجل وعدد من النساء، والتحم معها في قتال عنيف. ولما احتدمت الحرب خرجت لالة فاطمة نسومر في مقدمة الجميع وهي تلبس لباساً حريرياً أحمر كان له الأثر البالغ في رعب عناصر جيش الاحتلال.
انتهت المعركة بمقتل 44 جنديا فرنسيا من بينهم ضابطان و327 جريحا منهم 22 برتبة ضابط وبعد مفاوضات توقف القتال بأربعة شروط منها:
- إعادة انتشار القوات الفرنسية خارج القرى والتجمعات السكانية.
- عدم دفع الضرائب.
- عدم متابعة ومعاقبة قادة المقاومة.
- حماية الأشخاص والممتلكات.
- قاد المفاوضات عن الجانب الفرنسي الماريشال راندون، وعن الجانب الجزائري سي الطاهر. وقد تظاهر الماريشال راندون بقبول شروطها إلا أنه أمر بإلقاء القبض على الوفد الجزائري بمجرد خروجه من المعسكر. ولم يكتف بذلك، بل أرسل النقيب فوشو إلى قرية "ثخليجث ناث عتسو" لإلقاء القبض على لالة فاطمة نسومر فأسرها وعدد من النسوة.
وتفيد المصادر أن الجيش الفرنسي اثر هذه المعركة صادر العديد من الممتلكات، ونهب حلي النساء و50 بندقية وأكثر من 150 مجلدا من الكتب العلمية والدينية.
الأسر
على الرغم من المقاومة الباسلة التي ابدتها قوات فاطمة نسومر، لكن العدة والعتاد التي امتلكها الجيش الفرنسي فرضت منطقها على ارض الواقع. فجرت مراسلات بين الطرفين للمفاوضات وإيقاف الحرب. لكن السلطات الفرنسية نقضت العهد وغدرت بالوفد المفاوض، وتم اعتقالهم بمجرد خروجهم من المعسكر ثم أمر الجنرال ماكماهون بمحاصرة فاطمة نسومر وتم أسرها.
وخشية من عودة الثورة مجدداً الى بلاد القبائل قررت السلطات الاستعمارية سجن فاطمة نسومر مع 30 شخصاً من رجال ونساء لبني سليمان بتابلاط. وبقيت في السجن لمدة سبع سنوات تحت حراسة مشددة، إلى أن توفيت وهي لم تتجاوز 33 سنة بعد مرض عضال تسبب في شللها في سبتمبر 1863.
وتظل سيرة حياتها سيرة بطل مغوار.. لا مجرد امرأة.
رحلت فاطمة نسومر، لكن قصتها ظلت باقية في الضمير الشعبي الجزائري.. بل والعربي.