الحنجرة التي تفوق موسيقى الآلة..

حنجرة المغني المقتدر أثمن من آلة فايولين تنتسب إلى عائلة ستراديفاري الماهرة. لا لأن الموسيقى بدأت أصلاً مع الحنجرة البشرية فقط، بل لأن الحنجرة الواحدة داخل كيان أي إنسان على حدة، هي آلة موسيقية نادرة، ولا يمكن أن تتماثل مع أي حنجرة أخرى.
ولأن حنجرة المغني تخضع لذات الحاجة إلى التدريب والمران والتنقية والتطوير، التي تخضع لها الآلة الموسيقية. فإن مغني الموسيقى الكلاسيكية لا يضاهى، إذا ما تفردت موهبته، بأي عازف في نجوميته. وليس غريباً أن نقع على عصر، كعصر الباروك والعصر الكلاسيكي، تفوقت فيه مكانة المغني الأوبرالي على كل ما عداه من مؤلفين موسيقيين وعازفين وقواد أوركسترا، حتى صارت الأوبرا وأغانيها تصاغ على مقاس ومزاج حنجرة المغني وشخصه. وكان في ذلك عامل فساد لهذا الفن الرفيع، حتى طلع أفذاذ من أمثال «غلوك» ليعيدوا الاعتبار إلى الموسيقى ذاتها، وإلى نصها الشعري كعنصري دراما يتطلع إليها المغنون والعازفون معاً.

تلك حقب ولّت، نسمع عن أساطين الغناء فيها عبر الكتب. نسمع عنها، ولا نسمعها، حتى جاء عصر الغرامافون الحديث، الذي حقق إنجازاً للمغني وللمستمع لا يمكن مقارنته بأي إنجاز سابق. صرنا اليوم نسمع على هوانا مغنين وعازفين من كل بقاع الأرض، حتى أولئك الذين طلعوا مع طلوع آلة التسجيل في مطلع القرن السابق. صرنا نسمع أصواتهم، وكأنها تقبل علينا، رغم التنقية، من عصور سحيقة.

المغنون كثار هذه الأيام والخيار واسع، إيطاليا ثرية بمغني الأوبرا، خاصة الإيطالية، التي اتسع تأثيرها لكل العالم. ألمانيا ثرية بمغني فن «الليد» (الأغنية المستقلة)، وبالأصوات الفاغنرية، وبعدهما يأتي مغنو العالم من كل مكان.

من ألمانيا عادة ما نتوقع حنجرة تليق بفن الأغنية، والأغنية الألمانية بالذات، التي تتميز بالرصانة والجدية، والرومانتيكية العميقة. ولعل «فيشر ديسكاو» يظل الأشهر حتى اليوم في أداء هذا الفن، الذي طغى على دوره في الأداء الأوبرالي، إلا أن هناك مغنياً لا يقل رفعة اشتهر بأداء الأغنية، لكنه تفوق في الأداء الأوبرالي، انه «هانس هوتر» ذو الطبقة الوسطى «باريتون»، القادرة إلى الانحدار إلى الطبقة الخفيضة «باص» بيسر وعمق.

بدأ هوتر نشاطه الغنائي عام 1930، سوية مع نشاط التسجيل. لذلك نملك ثروة من نتاجه، حاولت دار DG الألمانية تقديم مختارات منه في اصدار جديد، وفي ثلاث اسطوانات أنيقة.

لقد برع هوتر بأدوار من أوبرات فاغنر، خاصة «فولتان» في رباعية «الحلقة»، ولقد أداه أكثر من مائة وخمسين مرة على مسارح العالم. والذائقة الموسيقية تحن إليه أبداً، وليس هناك من مغن يفوق أداءه لدورة شوبرت الغنائية «جوال الشتاء»، إن صوته وحدة ناضجة من اللحن والكلمات. لقد عاش هوتر مرحلة كان درس الغناء لا يكتفي بالتدريب بل بالتأكيد على أن الصوت المغنى إنما يطلع بالأصل من الصوت المتكلم، وأن الموسيقى والكلمات على قدر من الأهمية متكافئة.