"البخلاء" هو الكتاب الذي صور فيه الجاحظ البخلاء الذين قابلهم وتعرفهم في بيئته خاصة في بلدة مرو عاصمة خراسان.
ويوضح د. نظمي خليل أبو العطا في كتابه الجديد أن الجاحظ صور البخلاء تصويراً واقعياً حسياً نفسياً فكاهياً, فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم واطلعنا على مختلف أحاديثهم، وأرانا نفسياتهم وأحوالهم جميعاً، ولكنه لا يكرهنا بهم لأنه لا يترك لهم أثراً سيئاً في نفوسنا.
من محتوى الكتاب يعرض د. نظمي لبعض النماذج منها:
1ـ ديكة مرو البخيلة:
قال ثمامة: لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد , وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم.
2ـ طفل مرو البخيل:
عندما سمع أحمد بن رشيد حديث ديكة مرو البخيلة من ثمامة قال: كنت عند شيخ من أهل مرو. وصبي له صغير يلعب بين يديه، فقلت له: إما عابثاً وإما ممتحناً: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده هو مر، فقلت: فاسقني من مائكم، قال: لا تريده هو مالح. قلت: هات لي من كذا وكذا قال: لا تريده هو كذا وكذا. إلى أن أعددت أصنافاً كثيرة كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إليّ فضحك أبوه وقال: ما ديننا؟ هذا من علمه ما تسمع؟ يعني: أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم.
3ـ معاذة العنبرية وشاتها الاقتصادية:
قال شيخ: لم أر في وضع الأمور مواضعها وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية. قالوا: وما معاذة هذه؟ قال:
ـ أهدي إليها العام، ابن عم لها أضحية، فرأيتها كئبة حزينة مفكرة مطرقة، فقلت لها: مالك يا معاذة؟ قالت: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيم ( أي: من يقوم بأمرها )، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه، وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة، ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها، وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا في غيرها شيئاً لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة. ولست أخاف من تضييع القليل إلا أنه يجر إلى تضييع الكثير.
ـ أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو: أن يجعل منه كالخطاف ويسمر في جذع من أجذاع السقف فيعلق عليه الزبل ( السلة )، والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير وبنات وردان ( الصراصير )، والحيات وغير ذلك وأما المصران فإنه لأوتار المندفة، وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة.
وأما قحف ( العظم فوق الدماغ ) الرأس والليحان وسائر العظام فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها، فلم ير الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منه وإذا كانت كذلك فهي أسرع للقدر لقلة ما يخالطها من الدخان وأما الإهاب فالجلد نفسه جراب وللصوف وجوه لا تعد. وأما الفرث ( أي: الزبل ) والبحر فحطب إذا جفف عجيب.
ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد علمت: أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه. وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها وإن لم أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كية في قلبي وقذى في عيني وهما لا يزالان يعوداني.
قال: فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل ذكرت أن عندي قدوراً شامية جدداً. وقد زعموا: أنه ليس شيء أزيغ ولا أزيد في قوتها، من التلطيخ بالدم الحار الدميم، وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء في موقعه.
قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك؟ قالت: بأبي أنت! لم يجيء وقت القديد بعد لنا في الشحم والإلية والجنوب والعظم المعرق وفي غير ذلك معاش ولكل شيء إبان.
4ـ يسمعون بالشبع ويتهمون بأكل الهاضمات:
قال الجاحظ: وحثني أبو الأصبغ بن ربعي قال: دخلت عليه بعد أن ضرب غلمانه بيوم، فقلت له: ما هذا الضرب المبرح، وهذا الخلق السيىء؟ هؤلاء غلمان، ولهم حرمة وكفاية وتربية، وإنما هم ولد هؤلاء كانوا إلى غير هذا أحوج.
ـ قال: إنك لست تدري أنهم أكلوا كل جوارشين. ( بضم الجيم ـ أي: الأدوية الهاضمة ) كان عندي.
ـ قال أبو الأصبع: فخرجت إلى رئيس غلمانه فقلت: ويلك!! مالك وللجوارشن وما رغبتك فيه؟ قال: جعلت فداك: ما أقدر أن أكلمك من الجوع إلا وأنا متكىء، الجوارشن ماذا أصنع به؟ هو نفسه ليس يشبع، ولا يحتاج إلى الجوارشن ونحن الذين إنما نسمع بالشبع سماعاً من أفواه الناس، ما نصنع بالجوارشن.
5ـ ليلى الناطعية ولبس المرقع:
ـ ما زالت ليلى الناطعية ترفع قميصاً لها وتلبسه، حتى صار القميص الرقاع، وذهب القميص الأول، ورفت ( أصلحت ) كساءها ولبسته، حتى صارت لا تلبس إلا الرفو، وذهب جميع الكساء وسمعت قول الشاعر:
البس قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل
6ـ فقالت: إني إذاً لخرقاء، أنا والله أحوص ( أخيط ) الفتق وفتق الفتق وأرقع الخرق وخرق الخرق.
7ـ البخيل بالبخور:
قال بخيل: حبذا الشتاء فإنه يحفظ رائحة البخور، ولا يحمض فيه النبيذ إذا ترك مفتوحاً، ولا يفسد فيه مرق إذا بقي أياماً، وكان لا يتبخر إلا في منازل أصحابه، فإذا كان في الصيف دعا بثيابه فلبسها على قميصه لكيلا يضيع من البخور شيء.
8ـ وقيل لبخيل: قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل.
قال: لا أعدمني الله هذا الاسم.
قلت: كيف؟.
قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلم إلي المال، وادعني بأي اسم شئت.