:سؤال أطرحه على نفسي كلما شاهدت شخصاً يقف قريباً من لوح أسود منفعل
الملامح، مقطب الجبين، يلقي كلاماً معيناً على مجموعة تصغره سناً وتستمع
إليه.. ربما.. أو لا تستمع، لكن الظاهر هو الاستماع..إحدى التلميذات
الصغيرات همست لزميلتها في أثناء انفعال المعلمة في شرح الدرس قائلة: كم
أتمنى لو تداهم هذا المعلمة سكتة قلبية فتحيلها جثة هامدة في الحال..!إنها
فجوة كبيرة تلك التي تقف بين المُلقي والمتلقي.. والمعلم الآن في نظر بعض
التلاميذ هو: ذلك الشخص الذي يأخذنا من فضاء الحرية لضيق الفصل من أجل أن
يقول لنا كلاماً لا يعجبنا، لكن ربما يعجبه هو..!التلاميذ يظنون أن المعلم
في غاية السعادة وهو يلقي عليهم الدرس.. فهو السيف المسلط عليهم.. وهم
الأسرى الذين ينبغي أن ينصاعوا للتعليمات بلا اعتراض.التلميذ عندنا يذهب
إلى المدرسة وهو لا يعلم لماذا يذهب؟! يذهب لأن جميع الأطفال في سنه
يذهبون إلى المدرسة.. يذهب لأن والديه يرغبان في ذلك.. يذهب لأن المجتمع
يريد ذلك.. وأغلب التلاميذ يعتقدون أن المعلم يذهب لأن مكافأته الشهرية
جاهزة «الراتب» لكن هم ماذا يجنون؟! لا شيء غير كلمات التوبيخ والتقريع:
إن كان ممتازاً فلأن درجاته قلت قليلاً عما كانت عليه، وإن كان غير ذلك
فلإهماله وعدم تحصيله؛ ولذا تحدثني بعض الأمهات أن بناتهن الصغيرات يطلقن
سيلاً من التوسلات كل صباح ممزوجة بدموع حارة ونظرات مستجدية أن تسمح لها
بالغياب يوماً واحداً فقط.. كل هذا لأنها لا ترى ضرورة لذهابها كل يوم..
بل وترى الهروب يوماً واحداً من سلسلة أيام الدوام جديراً بأن تسيل من
أجله أنهار الدمع..إن انتفاء الدافع هو من أكبر المعوقات التي تحول بين
طلابنا وبين الاستفادة من الإمكانات المتاحة لهم في المدارس.. كما أن غياب
اللغة التي توصف بها العلاقة بين المعلم وتلميذه، وكذلك غياب آلية الحوار
والتبادل بينهما معوق آخر.. وإلى الآن لم أجد إجابة مقنعة للسؤال المطروح
حول ماهية العلاقة بين المعلم والطالب أو التلميذ.. والتلميذ يجهل ما
طبيعة هذه العلاقة، بل وقد يكون المعلم أيضاً أكثر جهلاً بها..! ولذا.. هل
نبالغ حين نقول إن انتفاء الدافع ليس حكراً فقط على الطلاب، وإنما يتعدى
إلى المعلمين أيضاً؟!فالمعلم لن تهطل من عينيه دمعة، أو يرسل نظرة
مستجدية، ليغيب هو أيضاً يوماً عن المدرسة.. ولكنه قد يفعل ذلك بطريقة
أخرى عندما يغيب بلا سبب، أو يبتكر الأسباب التي تمكنه من الغياب أو
الانصراف من المدرسة مبكراً، أو الحضور إليها متأخراً.. أو.. أو..ولا
يمكننا تبرير ذلك ـ في كل الأحوال ـ بعدم حب العمل، أو التملص من
المسؤولية، أو حب الراحة التي نوصف بها كشعوب نامية، بل إن غموض العلاقة
بين المعلم وتلاميذه يمكن أن يكون سبباً آخر..وعندما تتمنى تلك الصغيرة أن
تسقط معلمتها أمام عينيها جثة هامدة.. فهل يمكننا أن نقول إن المعلمة
لديها نفس الشعور تجاه التلميذة؟!السؤال القديم يعيد نفسه مجدداً:ماذا
يريد الطالب من المعلم؟ ماذا يريد المعلم من الطالب؟! هل أي من الطرفين
لديه القدرة على تحديد إجابته، وهل أحدهما ذهب إلى المدرسة وهو يعلم ماذا
يريد، أم أن كلاً منهما يذهب كل صباح لأن الجميع يذهبون، ويعود بعد الظهر
لأن الجميع يعودون، دون أن يحدد ماذا يريد بالضبط.. وماذا سيفعل بالضبط..
في الفترة بين الذهاب والعودة؟!قتـــــل:نهرتني تلك المعلمة، فسالت
دموعي.. نهرتني ثانية، حبستها بداخلي.. لكن نفسي حدثتني أن الدموع عندما
تحبس قهراً لا تصبح مجرد دموع.. عندما انشغلت لبعض شأنها، تحسست عيني..
وعادت أناملي مصطبغة باللون الأحمر.. آه.. لابد أن شيئاً ما.. قد قتل
بداخلي..!كسر.. انكسار:كل يوم.. كانت تلك المعلمة تمزق فرحتي بنهار جديد،
عندما تؤذيني بيدها.. أو لسانها.. كل يوم كنت آمل أن يكون أفضل دون
جدوى..تلك الليلة نمت ودمعة تداعب مقلتي.. وحلمت بأنني كبرت حتى صرت مثل
تلك المعلمة، وبينما صغرت هي حتى صارت مثلي.. كانت فرصة ذهبية لتشعر كم هو
مؤلم الضرب، كم هو مؤلم الانكسار.. رفعت يدي وأهويت بها على خدها، وكم
كانت مؤلمة تلك الضربة لدرجة أن يدي كسرت منها.. نقلوني إلى المستشفى
ووضعوا يدي في الجبس.. ورغم تعاستي لأن تلك اللطمة كانت لحافة السرير الذي
كسر يدي وليس لخد المعلمة، لكن فرحتي كبيرة لأن الطبيب منحني إجازة من
المدرسة بالإضافة إلى أنه قال لي: عندما تضربك تلك المعلمة، فالأفضل أن
تنامي ليلتها على أرضية مغطاة تماماً بالإسفنج.أمـــل:قالوا عن الدنيا
إنها مظلمة وبائسة، ولكنها تصفو لمن ذاق مرارتها ثم اعتادها.. وهي أقرب
لمن يمتلك حلماً يحبه، ويحافظ عليه.. ويبحث في كل السبل ليحققه.. قالوا عن
العمر: سحابة تمضي.. كأن لم تكن.. لكن من ينسى أن للسحاب دمعته التي تطفئ
ظمأ القفار والتلال.. العمر سحابة، تسح أكثر عندما تصطبغ بالحلم، سحابة لم
تُخلق لتخترق السماوات منتهية إلى.. لا أثر.. بل لتفعل وتكون.. وتكوّن..
بإذن ربها..