قبل فوات الأوان!!
م / صلاح بن عبدالعزيز قطب
الحمد لله الأول الآخر، الظاهر الباطن، حكيم بكل شيء عليم، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء..
وهو العلي الكبير المتعال...الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً. ورفع السماوات بغير عمد، وزينها بالكواكب والنجوم، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً.
أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه يملأ أرجاء السماوات والأرضين، دائماً أبد الآبدين، إلى يوم الدين، في كل ساعة وآن ووقت وحين، كما ينبغي لجلاله العظيم، وسلطانه القديم، ووجهه الكريم...
الحمد لله الذي مصداقه *** في كل شيء أنه خلَّاقه
الحمد لله الذي دليله *** في كل شيء واضحٌ سبيله
والحمد لله الذي من جحده *** فإنما ينكر رباً أوجده
والحمد لله الذي من أنكره *** فإنما ينكر رباً صوره
وأشهد ألا إله إلا الله الرحمن الرحيم، البر الكريم، وأشهد أن رسولنا ذا الخلق العظيم عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اصطفاه واجتباه وأرسله بخير دين، حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ثم أما بعد..
هاهو عام يودعنا وكنا بالأمس القريب قد استقبلناه، هاهي صفحة من صفحات أعمارنا تطوى ولا أظنها صفحة.. بل هي صفحات.. بل مجلدات، فربنا تعالى يقول وقوله الحق سبحانه "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"..ليتها كانت الألفاظ فقط هي التي تحصى ولكنها الأعمال "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وليتها كانت أعمال الجوارح فقط، فكم نهتمُّ بها ونحسِّـنُها، ولكن أعمال القلوب هي مكان نظر الرَّب سبحانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه مسلم
فمادام الحساب على مثقال الذرة من الأعمال، وعلى كل لفظ من الأقوال، وعلى ما يحيك في القلب ويقوم به من الأحوال، فكم هي هذه السجلات التي ملئت في هذا العام؟ وما الذي سطر فيها؟ ليسأل كل منا نفسه، ويقف مع نفسه وقفة صدق، فالصدق نجاة، وليحاسبها فهو أرفق بها يوم الحساب وهذه وصية الفاروق رضي الله عنه:
" حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا".
حاسب نفسك وانظر في الحقوق والواجبات…
هل أديت حق إخوانك في الله وعلى طريق الهدى؟ وحقوق إخوتك وأخواتك بالنسب، من صِدقٍ ونُصحٍ وبذلٍ وتضحية، وتعليمِ خيرٍ، وتحذيرٍ من مواردِ التهلكة؟.
هل أديت حقوق ذوي رحمك؟ فالرحم قد أخذت عهداً ممن لا يخلف -سبحانه وتعالى- بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها.
هل أديت حقوق جيرانك؟ " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". رواه مسلم
وقبل هذا هل أديت حق والديك؟ وحقهما عظيم.. عظيم …عظيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة" رواه مسلم.
وحق الله أعظم…وأعظم… فماذا أديت ووفيت منه؟
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك.. سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك..سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.. سبحانك ما ذكرناك حق ذكرك.. سبحانك ما شكرناك حق شكرك.. سبحان ذي العزة والجبروت.. سبحان الحي الذي لا يموت..
راجع كشف حسابك للعام الماضي…
هل كنت مستثمراً مجتهداً فزاد رصيدك؟ أو حتى تاجراً حذقاً فحافظت على رأس المال، أم أنك فرَّطت فضيعته؟ أريد أن نأخذ هذا الموضوع على محمل الجِّد ونقدُرَهُ قدْرَه، ونقف هذه الوقفة..
ليتخيل كل منَّا أنه يجلس وحيداً في غرفة هادئة خالية من الأثاث، نظيفة، صبغت جدرانها باللون الأبيض، ويجلس فيها جلسة مريحة، يسند ظهره إلى الجدار وينظر إلى الجدار المقابل، ويتنفس بعمق وهدوء، ويتخيل أن شريطاً مرئياً عنوانه " عامك الماضي" قد وُضِع في جهاز التشغيل وعُرِض عليه. إنه خاص بك أنت، ابدأ بمتابعته واستعراضه من بدايته غرة شهر الله المحرم وحتى آخر يوم من ذي الحجة.
لابد أنك سترى الكثير من الأحداث، أريدك أن تركز منها على المواقف الإيجابية من الطاعات و القربات والإنجازات التي حققتها في هذا العام. وبعد استرجاعها، ابدأ بتسجيلها في قائمة الحسنات.
الآن أعد الشريط من أوله واستعرضه مرة أخرى، ولكن في هذه المرة ركِّز على ما كان سلبياً من تقصير، وذنوب، وغفلة وهكذا حتى تنتهي السنة، وسجله في قائمة السيئات.
عد إلى القائمة الأولى، واسأل نفسك عن هذا القدر الكبير من الأعمال الصالحة كجبال تهامة، كم منها كان لله خالصاً.. لم تخالطه شهوة نفس، أو منافسة للآخرين، أو إبراز لعملك أو لمماراة السفهاء! أو مجاراة العلماء، وتذكر قول الله عز وجل "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا"، وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ………"
والآن اشطب كل عمل خالطه شيء من هذا..
ووازن ما بقي مع قائمة السيئات…
إن رأيت ما يسرك فاحمد الله، واعرف له عظيم فضله بتوفيقك وحفظك واسأله الثبات، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وإن كانت الأخرى فما زالت هناك فرصة مادام النفس يتردد في صدرك، وما دامت الشمس لم تطلع من مغربها..
هل تعلم كم من الخير حصَّلت أو فوَّت؟
أخي ..
- هل تعلم أنك صليت في هذا العام أكثر من 1700 فرض كم خشعت فيها وكم صليت منها في الصف الأول؟ وكم غيرت في حياتك وقربتك من الله؟ كم رُفع منها، وكم أخذ كالثوب الخلق فألقي في وجهك؟ وكم …..
- هل تعلم أنه قد مر بك أكثر من 50 يوم اثنين، و50 يوم خميس و30 يوماً من الأيام البيض، كم اغتنمت منها؟، فباعدت وجهك عن النار، قال الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه:" ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً" رواه مسلم.
- هل تعلم أنك لو قرأت 30 صفحة في كل يوم (حوالي 30 دقيقة)، أنك كنت أنهيت قراءة 10.500 صفحة أي حوالي 30 مجلداً في العام؟.
كم مريضاً عُدْتَ؟… كم جنازة تبعت؟…
صلوات من الملائكة، استغفار ودعاء لك، قراريط من الأجر، القيراط مثل جبل أحد.
كم ……وكم …….وكم……..
- هل تعلم أنه قد طلعت عليك الشمس هذا العام أكثر من 350 مرة، وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول:" كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس،…"
إذن كان عليك حوالي 130.000 صدقة في هذا العام، فهل أديت ووفيت، أو سددت وقاربت، أو حتى عزمت ونويت.
- هل قرأت القرآن بتدبر 12مرة في شهور السنة الـ 12 أو على الأقل ست مرات.
إذا لم تكن.. فنخشى أن تكون من الذين يشكوهم الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى مولاه يوم القيامة، ويقول:"يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً". سورة الفرقان
هل تعلم ماذا تستطيع أن تفعل في دقيقه واحدة ؟
- تقرأ سورة الفاتحة 4 مرات فتحصل على أكثر من 5.000 حسنة.
- تقرأ سورة الإخلاص 9 مرات، وهي تعدل ثلث القرآن فتكون كما لو أنك قرأت القرآن 3 مرات.
- تقرأ صفحة من القرآن الكريم أو تحفظ آية قصيرة من كتاب الله.
- تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي قدير 10 مرات وأجرها كعتق 4 رقاب.
- تقول سبحان الله وبحمده 50 مرة، وبإتمامها بأخرى- لتكمل 100- تغفر ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر.
- تقول سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم 20 مرة، وهما كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن.
- تقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر 15 مرة وهي أحب الكلام إلى الله وهي غراس الجنة.
- تقول لا إله إلا الله 45 مرة، وهي أعظم كلمة، من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة.
- تقول لا حول ولا قوه إلا بالله 30 مرة، وهي كنز من كنوز الجنة.
- تقول سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته- ثلاث مرات في ربع دقيقة-، وهي كلمات تعدل أضعافا مضاعفة من أجور التسبيح والذكر.
- تقول أستغفر الله 70 مرة، وهي سبب للمغفرة ودخول الجنة، ودفع المصائب، وزيادة الرزق، وتيسير الأمور، وكان الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، وهو من هو ، وهو من غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ويُعَدُّ له في المجلس الواحد مائة استغفار.
- تصلي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 20 مرة فيصلي الله عليك 200 مرة.
- تتفكر في خلق السماوات والأرض فتكون من أولي الألباب الذين أثنى الله عليهم.
- تقرأ صفحة من كتاب مفيد، فتزداد علما وفهما، وتكون طريقا لك إلى الجنة.
- تصل رحمك عبر الهاتف- وذلك أدنى الصلة-.. أو تُسلِّم على مسلم وتسأل عن حاله.
- ترفع يديك إلى السماء وتدعو بما تشاء.. تشفع شفاعة حسنة.. تواسي مهموماً.. تكتب كلمة طيبة لأخيك وترسلها له….
- تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالتي هي أحسن، تميط الأذى عن الطريق، تتبسم في وجه أخيك فتكون صدقة لك.
وغيره كثير.. كثير.
مرحلة جديدة من السباق، وفرصة جديدة للاستثمار..
بعد هذه الوقفة، التي لا نريد أن نطيل فيها أكثر من ذلك لأن ما فات سجل قد طوي ولن يفتح حتى تلقى ربك بكل ما أودعته فيه كما ذكرنا. ومن السفه ترك الفرصة المواتية بدون بذل وعمل وسعي لاستدراك ما فات والمسابقة في الخيرات.
ونريد أن نشير هنا إلى قضية هامة، وهي أن هذه الوقفة إنما أردنا بها مراجعة الحسابات، وتعديل المسار، وإصلاح النية، وتجديد العهد، وشحذ الهمة.. وليس الهدف منها تحقير النفس والإزراء بها لدرجة تؤدي إلى القنوط من رحمة الله.. فالإنسان بطبعه ملول، كثير النسيان، خطَّاء، والله يعلم ذلك منَّا –سبحانه-، " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "، وهو أرحم بنا من والدينا ومن أنفسنا، فهو الرحمن الرحيم.. البرُّ الكريم.
ربَّنا " تم نورك فهديت.. فلك الحمد، عظم حلمك فعفوت.. فلك الحمد، بسطت يدك فأعطيت فلك الحمد.
ربَّنا.. وجهُك أكرم الوجوه، وجاهك أعظم الجاه، وعطيتك أفضل العطية وأهناها.
تطاع ربنا فتشكر، وتُعصى ربَّنا فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضُّر، وتشفي السُقم، وتغفر الذنب، وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتك قول قائل" رواه أبو يعلى.
أخي الحبيب وأنت تدخل مع البوابة المشرعة أمامك، بوابة العام الجديد، وتخطو أولى خطواتك مستعيناً بالله
إذا لم يكن من الله عونٌ للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
أريد منك أن تراجع أهدافك، وتتأكد من معرفتك بالطريق الموصل، وأذكرك بأمور:
1) تب إلى الله:
التوبة الآن، وترك التسويف والمماطلة. ألم تعلم بأن التوبة واجبة عليك؟ ألم تعلم أن تأخير التوبة يحتاج إلى توبة واستغفار؟ فتِّش في دخيلة نفسك قبل مظهرها، وأقلع حالاً عما يبعدك عن ربك، وصُبَّ دموع الندم على ما كان، وأحسن في ما بقي.
2) انسجم مع فطرتك. خلقت عبداً وأمرت بأمر فاسمع وأطع، ونهيت عن أمر فانتهِ، وقُدِّرت عليك مقادير فاشكر واصبر، وسقطت سقطات فاستغفر وارجع واقترب " إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". لست وحدك العبد فكل ما تراه حولك وما لا تراه عبيد مثلك " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ".
ألم ترَ إلى الكون من حولك وانسجامه وما ذلك إلالخضوعه لله، وأنت أيضاً لن تنسجم مع فطرتك والكون من حولك حتى تعيش حقيقة العبودية لله. واستمع لدرر ابن القيم حين يقول: ففي القلب شعثٌ لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يُزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حُزنٌ لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه فاقةٌ لا يسُدُّها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أُعطيَ الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً.
وهذا ابن تيمية يؤكد على هذا المعنى بقوله: فالقلب لا يصلح ويُفلح ولا يلتذ ولا يُسرُّ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقرٌ ذاتي ٌ إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
3) حدد أهدافك. واجعلها أهدافاً مكتوبة واضحة، محددة، مؤقتة، واقعية، قابلة للقياس. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
4) اعرف حقيقة الدنيا ولا تغترنَّ بها. يضرب ابن القيم مثلاً معبراً عن حال الإنسان مع الدنيا، برجل في غابة، يطلبه وحش، وهو يهرب منه حتى وقع في بئر، وتعلق بالدلو قبل أن يسقط، ثم نظر أسفل منه فرأى حيات تتلوى، ونظر أعلاه فرأى فأرين يقرضان حبل الدلو الذي يتعلق به، والوحش لا زال يزأر بالخارج يتحين الفرصة ليهجم عليه، وبينما هو كذلك، أبصر في جدار البئر خلية نحل ممتلئة بالعسل، فانشغل عن كل ما هو فيه، وأخذ يستمتع بالعسل… !!!!
5) استفد من أجراس الإنذار وإشارات التحذير والتنبيه.
من فضل الله علينا أن جلا لنا الطريق وجعله مستقيما لا عوج فيه. وأقام لنا فيه علامات، وإشارات تحذير وتنبيه:
- أوراق التقويم.. ونحن نمزق أوراقها يوماً فيوم، ونحن إن فقهنا إنما ننظر إلى صفحات أعمارنا نمزقها بأيدينا.
- دقات الساعة.. دقات القلب..( دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني )
- هلال الشهر.. وكيف ينمو حتى يكتمل بدراً، ثم يأخذ في الذبول والنحول.
- فصول السنة.. وما يحصل فيها من تنوعٍ فيه عبرةٌ لمن يعتبر، فمن جوٍ لطيفٍ وأزهارٍ وخضرة تذكِّر بالجنة ونعيمها، إلى حرٍّ قائظ أو بردٍ قارصٍ يذكِّر بالنار وسمومها وزمهريرها.
- المرض.. فهو كفارةٌ، وتذكيرٌ بحقيقة الإنسان وضعفه وفاقته، ووقفة محاسبة.
- الموت.. فكم من قريبٍ أو صديقٍ واريناه التراب، وكفى بالموت واعظاً.
6) تزود من مواسم الخير:
وكما استفدت من هذه العلامات وتنبهت وتيقظت، فلا تفوتنك محطات التزود والتبلغ المنثورة في طريقك.. وهي محطات كبرى -مواسم الخير-، ومنها عاشوراء، وصيام شهر المحرم أو أغلبه وأغلب شهر شعبان، رمضان، الحج،.. ومحطات يومية أو شهرية، من صلوات خمس وأوقات السحر والجُمَع، والاثنين والخميس والأيام البيض، واتباع الجنائز وزيارة القبور وغيرها مما لا يخفى على الأخيار من أمثالك ، ونستفيد منها:
- لزوم الطاعة، وعدم قصرها على المواسم.
- استشعار حجم الجناية من البطالة العبادية والدعوية في حق الفرد والأمة والمجتمع.
- هذه المواسم تقنعك بأن بإمكانك أن تعمل الكثير، فقد جربت بنفسك والتجربة خير برهان.
- أن الدافع الذي قادك مازال، إذ إن الرب سبحانه بالمرصاد، والجنة والنار مخلوقتان ولكلٍ أهلون.
- المداومة على الطاعات والاستمرار عليها وإن قلت، عن عائشة رضي الله عنها:" كان إذا عمل عملاً أثبته صلى الله عليه وسلم ".
وهذا يقودنا إلى النقطة التالية..
7) استقم، فالاستقامة أعظم كرامة..
أمر بها الله عز وجل حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:" فاستقم كما أمرت ومن تاب معك.." سورة هود
ودل الرسول صلى الله عليه وسلم من سأله عن قول فصل يصلح عليه أمره على الاستقامة.
جاء في الصحيح: أن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال:" قل آمنت بالله، ثم استقم" رواه مسلم.
أخي.. هل تريد أن تكون ولياً من الأولياء تطير في الهواء، أو تسير على الماء !!؟
بل أدُلُّك على ما هو خيرٌ لك من ذلك وأرضى لك عند ربك وأنفع لك في الدنيا والآخرة، وهو المداومة على فِعْلِ ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تركه وهي الاستقامة على أمر الله، وهي الولاية الحقَّة.
- إنها الالتزام بمبادئك ومعتقداتك، مهما كلف ذلك من عنت ومشقة، ومهما ضيع من فرص ومكاسب وملذات وشهوات.
- إنها نظَّارة، إذا ما وضعتها على عينيك، تلون كل شيء بلونها فصاحب المبدأ له طريقته الخاصة في الرؤية والإدراك والتقويم.
- إنها تجعلك في ثلة قليلة …قليلة بين هذا الطوفان من البشر، استهدفت أن تحيا لله، ترجو رضوانه وتخشى عذابه، ثلة تهتف "إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" سورة الأنعام
- إن الذين يعلنون الولاء للمبادئ كثيرون، بل هم أكثر أهل الأرض، ولكن لا برهان على ذلك لدى أكثرهم.
فهل لديك برهان على تمسكك بمبادئك؟؟
- إن من طبيعة الاستقامة والثبات على المبدأ أن تمد صاحبها بقوى وإمكانات خارقة وخارجة عن رصيده الفعلي ولذا فإن التضحيات الجليلة لا تصدر إلا عن أصحاب المبادئ والالتزام.
شتان بين موقف الخنساء من قتل أخيها قبل الإسلام وموقفها حين استشهد أبناؤها في سبيل الله.
- لا أحد ينكر أن الظروف الصعبة توهن من سيطرة المبدأ على السلوك، لكن تلك الظروف هي التي تمنحنا العلامة الفارقة بين أناس تشبعوا بمبادئهم حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم، وأناس لا تمثل المبادئ لهم أكثر من هيكل عام براق يتزينون به، أو تكميل شكلي لبشريتهم حتى يتميزوا عن السوائم التي تحيا من أجل التكاثر والبقاء.
تخيل العام الجديد وكيف ستكون فيه؟
ارجع إلى غرفتك البيضاء، واجلس فيها وحيداً متأملاً في هذا العام القادم والضيف النازل بك وتنفس بهدوء وعمق، وتخيله كما تشاء..
تخيله سجلاً ضخماً صفحاته بيضاء، وقرِّر ماذا تحب أن تكتب فيه، وانظر إلى نفسك وأنت تقرأ ما سطره يراعك في أوراقه آخر العام. وهل تستطيع أن تفتحه أمام الخلائق يوم تطير الصحائف وتهتف:"هاؤم اقرؤوا كتابيه"سورة الحاقة
تخيله بساطاً ممدوداً أمامك، تسير عليه وكل ما مشيت طوي من خلفك، فلا رجوع إنما هو المضي والتقدم..
تخيله شريط تسجيل طويل، وضعته في جهاز التسجيل، وأمسكت باللاقط (الميكروفون)، وبدأت في تسجيل يومياتك وكل كبيرة وصغيرة عملتها، وكل ما حدثت به نفسك أو حاك في صدرك حتى نهاية العام.. هل يمكن أن تعيد تشغيله من بدايته، وترفع صوت المكبرات، ليسمع الناس ما فيه..
تخيله سجلاً جديداً لحفظ الصور لم توضع فيه صورة بعد، ثم ها أنت تضع فيه صورة لك في كل لحظة، وانظر إلى الصور التي تحب أن ترى نفسك عليها وأنت تتصفحها في آخر العام وتستعرضها مع والديك وأصدقائك.
والآن أُخَيَّ ها قد دخلت من البوابة - بوابة عامك الجديد -، وأخذت تدرج على بساطه..
سل نفسك….
- كيف كنت في أيامك الغابرة من هذه التيارات التي تتصارع في عالم البشر؟ هل كنت قشة يتلاعب بها التيار؟ أم كنت صخرة تتحطم عليها تلك الأمواج؟
- أكان همك من دنياك لقمة تأكلها، وشربة تشربها، ولباساً تلبسه، أو إضاعة وقتك في لهوٍ مباح أو غير مباح؟ أم كان همك معالي الأمور والدرجات العلى؟
- أكنت ممن يقول ما لا يفعل؟ أ م ممن يعبر فعله بأفصح بيان؟
- أكنت ممن يرى الحلال هو ما حل في اليد أياً كان مصدره؟ أم كنت ممن يدع ما لا بأس به خوفاً مما به بأس؟
لا.. لست من الفريق الأول.. بل أحسبك من الفريق الثاني.. صاحب دعوة ورسالة تريد أن تستقيم حياتك وفقها، وتريد إبلاغها للعالمين، ثم تريدها إطاراً يحكم الحياة ويهيمن عليها.
وأنظر إليك صائماً نهارك، صافاً قدميك بين يدي الله تتلوا آياته آناء الليل وأطراف النهار، مجمِّلاً وجهك بنور الإيمان، مرطباً لسانك بذكر الله، تغدو بقلب كبير يسع الناس حباً ورحمة، وجِلٍ من المقدم على مولاه شديدٍ على أعداء الله. وأرى هذا الملك المسدد، والقائد الملهم – قلبك الحي، الصادق، الطاهر- يقود جندك (جوارحك) إلى النصر المبين.. إلى سعادة الدنيا وفوز الآخرة.
هل تظن أنك ستكون كذلك؟ بل أنت كذلك، وأكثر ..
فبادر وشمر..
" من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". رواه الترمذي
ولا تَغْلُ..
" إن الدين يسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" رواه البخاري
وأبشر فما زال النفس يتردد في صدرك!
وما زالت الفرصة مواتية. فهل تدرك نفسك قبل فوات الأوان!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك..