يقال أن الموسيقى لغة عالمية، اللغة الوحيدة التي يفهمها جميع الشعوب على اختلاف ثقافاتهم، لكن لكل ثقافة تراثها الموسيقي الذي يمثل هويتها وقيمها، ويميزها عن غيرها. وتحاول الشعوب جاهدة الحفاظ على ثقافتها وموروثها الموسيقي خصوصا في ظل تزايد تأثير العولمة على ثقافات الشعوب وموسيقاها. حيث هناك اعتقاد من الغالبية العظمى من الكتّاب، لا سيما من دول العالم النامي، أن العولمة تركت آثارها على نوعية الموسيقى لشعوبهم، معتبرين أن ظهور الموسيقى الحديثة الناشئة أصبح على حساب أصالة الموروث الموسيقي المحلي لهذه الشعوب. وارتأى بعضهم أن العولمة الثقافية باتت تشكل خطرا يتهدد موسيقاها، وأبدوا مخاوفهم من اندثار أصالة مورثهم الموسيقي.
الشعوب العربية كغيرها من الشعوب عنت بإرثها الموسيقي لأنه جزء من ثقافتها وتاريخها الحضاري، وحاوَلت جاهدة الحفاظ على هذا التراث في ظل انتشار الموسيقى الحديثة المتأثرة بالموسيقى ذات المنشأ غير العربي. وقد مرت الموسيقى العربية بمراحل متعددة، وتركت الدراسات الإسلامية المبكرة التي قام بها كل من الكِندي والفارابي ثروة من الوثائق التي تحوي نظريات علمية هامة أخذتها عن الحضارات القديمة (الإغريقية والفارسية) ثم طورتها إلى ما يعد الآن أساس الموسيقى العربية. بالطبع نحن ندرك أن قلة فقط هم المتخصصون بالموسيقى العربية ويعرفون ميزاتها وخصائصها. لذا سنبدأ هذه المقالة بإلقاء الضوء على أبرز الآلات الموسيقية العربية، وأهم ما يميز الموسيقى العربية عن غيرها. وذلك قبل الانتقال للتعريف في أبرز وجهات النظر حول مخاطر تأثيرات العولمة الثقافية على أصالة الموسيقى العربية. وننوه إلى أننا لن نتطرق إلى التفصيلات الكثيرة والمتشعبة حول الموسيقى أو العولمة التي لن يتسع المجال للخوض فيها هنا.
أبرز الآلات الموسيقية العربية
الآلات الموسيقية العربية تطورت مع مرور الزمن لكن ورغم تطورها إلا أنها حافظت على سماتها الشكلية الأساسية وربما أن الأشهر بين الآلات الموسيقية العربية هي الآلات الوترية والآلات الإيقاعية. وأهم الآلات الموسيقية الوترية في الموسيقى العربية العود، وقد استخدمه القدماء المصريون منذ حوالي 3500 سنة. وانتقل إلى العرب في العصور الوسطى. ولم يكن للعود قديما سوى أربعة أوتار إلى أن أضاف فيه "زرياب" الوتر الخامس، وذلك في أوائل القرن التاسع الميلادي ببلاد الأندلس. والكمان آلة أخرى من عائلة الآلات الوترية، ويعتبر أهم الآلات ذات القوس المعروفة بـ "عائلة الفيولينة" التي تعتبر العمود الفقري في تشكيل الفرق الموسيقية العربية لأنها تغطي تدرجًا نغميًّا ومجالاً صوتيًّا عريضًا من الحدة إلى الغلظة. أما القانون آلة وترية عربية أخرى من ذوات الأوتار المطلقة وهو أكثر الآلات الشرقية اتساعًا في مناطق الأصوات الغنائية، ويشد عليه الأوتار في مجموعات ثلاثية لكل نغمة.
إلى جانب الآلات الوترية العربية هناك آلات موسيقية إيقاعية عربية من أشهرها الدف، وهي آلة قديمة العهد استخدمها العرب قبل الإسلام، والبعض يسمونها "الرق" نسبة إلى الجلد الرقيق المشدود على أحد وجهيه، وتعلق بالإطار جلاجل نحاسية رقيقة لزخرفة الإيقاع. وهناك أصناف من الدفوف الكبيرة الحجم مثل البندير والمزهر، ويستعمل في ألحان الموالد وعند المتصوفين من الدراويش. والطبلة آلة إيقاعية عربية شهيرة وتُعرف أيضا باسم دربكة. وعند الحديث عن أبرز الآلات الموسيقية العربية لا يمكن إغفال الناي وهو عبارة عن قصبة جوفاء، مفتوحة الطرفين، من نبات الغاب، وقد استخدمه قدماء المصريين.
الأشكال الموسيقية والإيقاع في الموسيقى العربية
تختلف التنصيفات لأشكال الموسيقى العربية، لكن وإن اختلفت هذه التصنيفات فهناك أشكال موسيقية متفق عليها ومن بينها المقام وهو مجموعة الأصوات المحصورة بين صوت وتكراره (جوابه)، وتتميز المقامات بعضها عن الآخر بسبب اختلاف الأبعاد (المسافات الصوتية) بين الدرجات الموسيقية. وتجمع المقامات الرئيسية في كلمة (صنع بسحر) وهي صبا ونهوند وعجم وبيات وسيكاه وحجاز وراست، هذه المقامات الأساسية التي تتفرع من خلالها المقامات الأخرى على حسب الأبعاد الموسيقية في السلم الموسيقي وتصل تقريبا إلى 250.
ومن الأشكال الموسيقية العربية التي اشتهرت، لا سيما في العصر الأندلسي، الموشحات والموشّح وهو كلام منظوم على وزن مخصوص، ظهر في أواخر القرن الثالث الهجري، وسمي بموشح لما فيه من ترصيع وتزيين، وشبّه بوشاح المرأة المرصع باللؤلؤ والجواهر. والموّشحات تتدرّج في أوزانها من البطيء إلى السريع. والتحميلة وتشمل قسماً مؤلفاً يشترك فيه كل العازفين وقسماً آخر مرتجلاً يقدّمه العازفون فرادى بالتناوب ويجري فيه حوار فنّي بين العازف والفرقة. ومن المعزوفات العربية التركية اللونغا وهي تؤدى في الغالب بآخر الموشحات، وتتميّز بإفساح المجال لأحد العازفين بإظهار براعته. ويعتقد أن هذه القطعة ولدت في تركيا بحكم اتصالها بشعوب البلقان التي تتسم موسيقاها بالسرعة، وانتقلت إلى العرب. أما الأدوار فشكل آخر من التراث الموسيقي العربي الذي ظهر منذ حوالي قرن وحصل على شعبية مع ارتفاع مستواه الفني، وإذا كان الموشح تؤديه المجموعة الصوتية فالدور يعتبر حواراً فنياً بين المجموعة والمطرب الذي يقوم بارتجالات يبرز فيها مدى رسوخه في المقامات وتمكنه في الإيقاع والوزن، ويختم الدور بصوت حاد متواصل ينزل إثره المغني بالسلّم لإتمام القفلة.
خصائص وسمات الهوية الموسيقية العربية
للموسيقى العربية خصائص وسمات تميزها عن غيرها وتشكل دعائمها الأساسية التي ترتكز عليها هوية هذه الموسيقى، وبحسب ما يراه د. معتصم عديله فإن أهم خصائصها النظام السلّمي يعد من أهم ما تتميز به الموسيقى العربية ويحتوي على عدد من الأصوات التي تتراوح ما بين 17-24 صوتا مختلفا غير متساوي بحيث يأخذ كل صوت سمته الخاصة به واسمه الذي يسمى به. والمسافات الصوتية المتشابهة من حيث المسمى والمختلفة من حيث تساوي القيمة هي المسؤولة عن إعطاء هذا السلم الخصوصية العربية. وهناك من يعتقد بأن أي تعديل على هذا السلم ما هي إلا محاولات لطمس هويته وتتعارض مع ماهية الموسيقى العربية.
يعتبر النظام الإيقاعي الزمني، سمة أخرى تميّز الموسيقى العربية، حيث أن تقسيم الزمن إلى أجزاء طويلة وقصيرة في الموسيقى العربية أعطاها أهم سمات هويتها. فالنظام الإيقاعي الزمني في الموسيقى العربية لا يعتمد في تقسيم زمن الواحد الصحيح إلى النصف والربع والثمن وإلى 1/16 وإلى 1/32 ومكملاتها كما هو متعارف عليه في الموسيقى الغربية بل يقسم الواحد الصحيح إلى خمسة أجزاء أو سبعة أو 11 جزءا.
الآلات الموسيقية العربية تعتبر سمة إضافية تميز الموسيقى العربية حيث أنها نظام سلمي موحد يعتمد تقنية عزف موحد. وتتميز الموسيقى العربية بالبنية الزخرفية لقوالبها المصاغة، كما تخلو من تعدد الألحان وتعدد الإيقاع أو من التطور الموتيفي. وثمة ميزة أخرى هي القدرة على الانتقال من تنظيم حيزي ثابت وإيقاعي زمني حر إلى تنظيم حيزي حر وإيقاعي زمني ثابت أثناء العرض الموسيقي للصبغ والقوالب الموسيقية العربية الطويلة. ويعطي الصوت البشري في الموسيقى العربية دورا رئيسيا في التعبير الموسيقي.
أثر العولمة الثقافية على الموسيقى العربية بين مؤيد ومعارض
تراوحت الآراء حول تأثير العولمة على الموسيقى العربية، الرأي الأول ذهب إلى اعتبار أنه لا توجد خطورة من العولمة الثقافية على الموسيقى العربية، ويرى المدافعون عن هذا الرأي أن ما يطلق عليه البعض بهيمنة العولمة الثقافية على الموسيقى العربية إنما هو انفتاح الموسيقى العربية على غيرها من الموسيقى غير العربية، وهو ما أكسبها الكثير من الخصائص والقدرة على التنوع. والمدافعون عن هذا الرأي يستدلون على صحة رأيهم بأن إقبال الشعوب العربية أصبح منصبّا على الموسيقى الحديثة ذات الإيقاع السريع، ويعتبر هذا الرأي أن العصر الحالي هو عصر السرعة، حيث يرون أن الموسيقى العربية تحتاج إلى مواكبة هذا العصر الذي يلزمه نوعا مختلفا من الإيقاع. كما يعتقدون أن الموسيقى العربية إذا بقيت منغلقة على نفسها فإنها ستبقى جامدة دون أي تقدم أو تطور، مما سيؤدي إلى ملل المستمع العربي وتحوله إلى غيرها من الموسيقى.
الرأي الآخر كان مناقضا لما يراه الرأي الأول حيث يرى أن هناك خطورة كبيرة من تأثيرات العولمة الثقافية على الموسيقى العربية، ويعتقد هذا الرأي أن ما يعتبره البعض انفتاحا إنما هو نفيا للثقافة العربية ولإرثها الموسيقي، ويجادل هذا الرأي بقوله إن الموسيقي العربي المعاصر والذي تأثر بموسيقى غير عربية أحدثت ابتكاراته الجديدة في الموسيقى العربية تغيرا جذريا مشوها للتراث الموسيقي العربي، ويرى أصحاب هذا الرأي أن التسليم والانجراف وراء العولمة سيؤدي إلى طمس ملامح الموسيقى العربية. ويدافعون عن الموسيقى العربية بما يذهبون إليه من أن الموسيقى العربية تتميز بخصائص تجعلها فريدة وقادرة على التطور لكن مع المحافظة على خصائصها الأساسية، فأي تطوير وتحديث يطال عمق هذه الخصائص سيؤدي إلى طمس هويتها. واعتبروا أن من يرى الموسيقى العربية لا تقبل التطور يُعد جاهلا بمميزات الحضارة الموسيقية العربية.
يستمر الجدل بين هذا الرأي وذاك، لكن هذا الجدل لا يمنع من أن الموسيقى العربية الحديثة وكذا الغناء العربي الدارج على الساحة العربية بات يبتعد شيئا فشيئا عما ألفناه وسمعناه من أصالة الموسيقى العربية. ولا نعرف إذا استمرّ هذا النوع من الأغاني وهذا النوع من الموسيقى إلى أي مدى يمكننا أن نطلق على ما نسمعه بموسيقى عربية؟