alla
تاريخ التسجيل : 31/10/2009 العمر : 30 الموقع : https://www.facebook.com/new.sun.946
| موضوع: الابداع الموسيقى والعقل الخميس 17 ديسمبر 2009 - 19:12 | |
| يشترك كل من المؤلف والمؤدي (العازف أو المغني أو المايسترو )، والمستمع .. في خاصية الإبداع الموسيقي..لأن ثلاثتهم يشتركون في خلق العمل الفني، وإخراجه بطريقة أو بأخرى. فالمؤلف يقوم بعملية الإبداع الأولي.. ثم يأتي دور الأداء ، فيقوم العازف مثلا بإعادة الخلق والإبداع للحن الذي وضعه المؤلف .. والذي لا يوجد ولا يسمع بدون العازف.. والأداء هنا هو اشتراك في الإبداع مع المؤلف.. لأن اللحن يخرج إلى السمع من خلال العازف وفهمه وتكوينه وتجاوبه العصبي والحسي.. وأخيرا فإن المستمع يشترك مع كل من المؤلف والعازف في عملية الإبداع الموسيقي.. وهو الذي يحكم على جودتها وفقا لتكوينه وظروفه. فهو لذلك يشترك في عملية الإبداع الموسيقي. إن هذا الفن السمعي العظيم.. هو الوحيد بين الفنون الذي لا يوجد إلا بثلاثة .. هم المؤلف والعازف والمستمع.. ولا تكون له قيمة على الإطلاق عند تغيب أي من هذه العناصر الثلاثة. وفي بعض الأحيان يكون المؤلف هو نفسه العازف. وهذا لا ينفي أن عمل المؤلف يمر حتى في هذه الحالة بمرحلتين .. هما التأليف وإعادة التأليف أي الأداء. العقل هو وحده الذي يتحكم في عملية الإبداع الموسيقي بجوانبه المختلفة. وهو وحده الذي يتحكم في الإحساس وفي الذاكرة ، هو وحده الذي يفرق بين الإنسان والحيوان.. فما بالكم بالإنسان الفنان .. لا بد أن يكون له عقل متكامل.. والإلهام بالمعنى المتداول .. يلغي العقل ويفرض سيطرة الغيبيات. يقال مثلا عن أسلوب عصر معين إنه “اللغة الموسيقية العامة لهذا العصر”.. وبمجرد أن يتمكن المستمع من الوصول إلى المعنى الموسيقي.. فإنه يصبح قد خطا في الطريق المؤدي إلى التعرف على الأساليب الموسيقية المختلفة والإحساس بها بلمحة سريعة. الصوت الموسيقي هو الأساس الذي تبنى عليه نظرية “اللغة العالمية للموسيقى”.. وبخلاف الصوت فان هناك قانون التنظيم الداخلي للبناء الموسيقي.. وأيضا توجد قوة التأثير الموسيقي على المستمع، التي تحرك فيه المشاعر وتفجر الأحاسيس وتستدعي الخبرات والتجارب.. وتعيد الذاكرة فيما يختص بأحداث وأحاسيس ترتبط باللحن موضوع التذوق. والعصر يطبع اللحن ببصمة معينة تميز التشكيل العلمي والوجداني التلقائي له، الذي يتجسد في الأنماط والقوالب الموسيقية. وإلى جانب العصر، فهناك البيئة التي تلعب دورا رئيسيا في تكوين وتشكيل عقل المؤلف نفسه وحسه الموسيقي. وفي الواقع، فإن سمات مميزة عديدة تظهر في فنون كل عصر وتوحد بين ملامحها العامة وأسلوب بنائها وفكرها، وأيضا تعبيرها .. وهذه السمات هي التي تميز ما يسمى باللغة الموسيقية لهذا العصر أو ذاك. إن هذه اللغة تضم بين مفرداتها الموسيقية مقامات معينة ترتبط بالعصر، وتآلفات هارمونية لم تكن معروفة أو غير مستعملة في العصر السابق مثلا.. الخ. وبتفهم وسائل التعبير الموسيقي العام لكل عصر، يتمكن المستمع الجاد من متابعة أي عمل موسيقي ينتمي إلى أحد العصور الموسيقية الرئيسية. وبإيجاز تام، فإنه سيعرف مقدما الكثير عما يستمع إليه، حتى ولو كان هذا الاستماع يتم لعمل موسيقي لم يتعرف عليه من قبل. ويجعل الإنسان أكذوبة، بلا إرادة ولا وجود.. وكم سمعنا وعايشنا مؤلفي الموسيقى.. وهم يجاهرون بأن الموهبة وحدها والإلهام البعيد عن التحكم والمتابعة وراء خلق هذا اللحن العظيم أو تلك الدرة الموسيقية.. وهم قد يكونون صادقين.. ولكنهم إن صدقوا .. فلا يمكن أن يكون إبداعهم الموسيقي سوى خرافة وجنون.. ولا تكون مؤلفاتهم سوى تخلف وبدائية وانحطاط. ومن البديهي أن هذا الطراز من الموسيقيين، هم فقط ذوو الثقافة الموسيقية الضحلة..إن كانت لديهم ثقافة على الإطلاق. وللأسف فإن هؤلاء يسمعون أنفسهم ويتخيلون المجد والإبداع.. ويحكمون على عبقرياتهم بآذان عفنة ونفوس مريضة. الإلهام إن وجد.. هو وليد العقل والسيطرة والتحكم.. وهو وليد الدراسة والثقافة. أما الذاكرة الموسيقية، التي هي العقل الموسيقي، والإلهام بمعناه العلمي فهي التي تحفظ الثقافة والخبرات والقدرات في العقل الباطن للفنان. وهي التي تؤلف ما يريد من ألحان بمجرد تفكير المؤلف فيها واستدعائه لذخيرتها العلمية والحسية.. وليس الحس سوى انطباع عقلي مصحوب بالخيال. تفشت عادة تعاطي المخدرات بين طبقة من الموسيقيين بهدف الإبداع الموسيقي.. في الوقت الذي يجب أن يتناول المؤلف المنشطات لمراكز العقل – وأقول ذلك مجازا- تلك المراكز التي تتحكم في الحس والشعور والذاكرة.. وعندما نلغي نشاطات العقل.. فإننا نلغي الإمكانيات الصحية للتأليف الموسيقي ويصبح الإلهام خرافة وتخلفا وأكذوبة وتعفنا.. هناك تجارب عدة قام بها الزمن والتاريخ .. وراجعها العلم.. والإنسان.. هناك موسيقيون عظماء أمثال (شومان) و (سميتانا).. كتبوا كنوزا للتراث الموسيقي الإنساني العالمي.. ثم مرضوا .. واختلت عقولهم!!.. استمروا في الكتابة الموسيقية.. فأصبح أمامنا الفارق بين مؤلفاتهم وهم أصحاء .. وإبداعهم الناتج عن الإلهام المجرد، دون تدخل صحيح من العقل البشري- الذي كان قد أصبح عليلا- ودون مراجعة من القوى العقلية الواعية.. ودون ذاكرة بشرية سليمة.. فماذا يمكن أن تكون مؤلفاتهم هذه .. ؟ الذاكرة هي أساس لكل أنواع النشاط والممارسة الموسيقفيَيْن. من الواضح والبديهي أن كلاً من التأليف والأداء، وحتى الاستماع، يعتمد على الذاكرة. فالمؤلف لا يستطيع كتابة أبسط الجمل الموسيقية بفاعلية ذات تأثير إذا لم يكن قد سبق له الاستماع إلى مكونات هذا اللحن وتتابعاته الصوتية والإيقاعية والهارمونية.. الخ. وإذا لم يكن بالتالي قد تمكن من اختزانها في عقله الباطن لتكون تحت الطلب عندما يستدعيها عن طريق الذاكرة.. ويتم ذلك عن طريق اللاشعور.. فيتذكرها المؤلف (أي مكونات اللحن) في علاقات وارتباطات جديدة.. حسب التشكيل الجديد للموسيقى التي يكون بصدد كتابتها. والعازف، بالمثل تقوم ذاكرته بتوجيه أصابعه.. ويتولى هو استدعاء ما يكون قد استمع إليه ودرسه من قبل.. وتكون عملية الاستدعاء هذه هي إعادة خلق اللحن الذي يقوم بأدائه، لأنه يعيد عزفه من خلال ذاكرته وفهمه وإحساسه.. ومن خلال ظروف مختلفة للذاكرة وارتباطاتها النفسية والفسيولوجية بجسم الإنسان ونفسه ومحيط حياته، وسرعة تجاوب جهازه العصبي. أما المستمع.. الذي من أجله يتم كل شيء.. ودونه لا شيء يوجد. المستمع هذا، لا يستطيع مثلا أن يغني لحنا ما.. ولا يستطيع أن يستمتع بأي موسيقى يكون قد استمع إليها من قبل، ما لم يتمكن من تذكر هذا اللحن بدرجة مطابقة لواقعه، أو أقرب ما تكون إلى هذا الواقع.. وأكثر من ذلك، فإن عملية الاستماع، حتى إلى لحن جديد.. لا يمكن أن تتخللها متعة، ما لم يكن المستمع متمكنا بذاكرته (أثناء الاستماع) من ربط ما يستمع إليه بالمكونات الموسيقية التي يكون قد تعرف عليها مرات عديدة قبل ذلك.. من مكونات مقامية إلى إيقاعية إلى تلوينات أوركسترالية، إلى آخر إمكانيات الفن الموسيقي العلمية والوجدانية. ومن كل ذلك، يتضح لنا أن الذاكرة الموسيقية هي الأساس الأول للكيان الموسيقي متمثلاً في التأليف والأداء أو الاستماع. إن الذاكرة لا تستطيع أن تعمل أو توجد بدون ارتباطات وعلاقات. أي أن عملية الاستدعاء للأفكار أو الألحان هي التي تؤدي إلى تذكير الأشياء.. فالارتباطات، والعلاقات بين الأشياء هي وسيلة الذاكرة إلى النشاط والعمل.. وعلى سبيل المثال فإن صوت جرس المدرسة قد يعيد إلى ذاكرتنا مشهدا من حياتنا المدرسية ربما مرت عليه أعوام طويلة. وبوجه عام، فإن الليل يذكرنا بالنهار. الأبيض بالأسود.. والعاصفة بالهدوء.. أي أننا نذكر الشيء بنقيضه .. مثل السكر والملح.. وقد نذكر الشيء بالشيء المماثل.. فنذكر أن فاكهة حلوة المذاق. ونتذكر مذاقها عندما نراها أو نسمع عنها أو نرى الغير يأكلها.. وكذلك .. فإننا نتذكر اللحن عندما نستمع إليه.. أي أننا نذكر الشيء بالشيء..وقد نتذكر لحنا عندما نستمع إلى صوت آلة موسيقية معينة تكون مشتركة في أدائه .. الخ. ورغم أن الذاكرة الموسيقية توجد عند القلة بشكل قوي في فترات معينة من العمر ومن تجربة الحياة.. فإن القاعدة العامة هي أن هذه الذاكرة يتم تكوينها وتدريبها وصقلها .. والوصول بها إلى مستوى جيد يمكّن صاحبها من الاعتماد عليها في التأليف والأداء أو الاستماع.. وهذا التدريب والتكوين للذاكرة الموسيقية يتم فقط، عن طريق متابعة تقديم المعلومات الموسيقية (في أي صورة من أشكالها) بانتظام وبوعي يقوم الأخير باختزانها.. والسماح لها بالخروج بمجرد الاستدعاء.. أي بمجرد أن يحاول الإنسان تذكرها. عندما أصيب (شومان) بمرضه العقلي الذي أدى به إلى الحياة في مستشفى الأمراض العقلية حتى آخر أيامه، كتب مجموعة من “التنويعات لآلة البيانو”. وكان وهو يؤلف هذه الموسيقى يقفز من فراشه أثناء النوم بعد أن توقظه خيالاته: “أجمل ألحان الملائكة” ، “وحي إلهي من السماء”.. ويجري إلى الورق ليدون إلهامه، الذي قال وكتب.إنه أجمل موسيقى عرفتها البشرية، ويتضح أن الألحان التي قال عنها مؤلفها (شومان) إنها “أجمل ألحان الملائكة”.. لا تزيد عن أن تكون ألحانا للشياطين .. لأن العقل مريض.. والذاكرة الموسيقية مشوشة.. تماما كما يروي عباقرة كثيرون لا يعلمون ماذا يفعلون.. ومن مؤلفات شومان وهو مريض – وهي ليست للنشر ولا للأداء – لحن مشوه.. باهت.. ولكنه إعادة فقيرة تنقصها الذاكرة، لإحدى مؤلفاته العظيمة التي كتبها قبل مرضه. وهذا نموذج واحد.. يوضح لنا أن الإلهام الحقيقي هو الذي يكون فيه الذكاء والعقل الواعي متحكما في كل ما يبدعه الفنان.. وقد يكون هذا التحكم تلقائيا نتيجة للمقدرة والتدريب الواعي الذي يكون (اللاشعور) قد اختزن خلاله المعرفة والإمكانيات، والمقومات التي تؤدي -عند استدعائها- إلى تيار متدفق.. من الإبداع الموسيقي الخصب.. أما الوحي.. والإلهام المجردان من مراجعة العقل.. فإنهما جنون .. ومرض .. وتخلف. إن موسيقى شومان وهو مريض، تضمنت لحناً واحداً سليماً من الناحية العلمية..أي سليم في تراكيبه.. لأنه يبدو أن مخزون عقله الباطن من العلوم والتجارب الموسيقية قبل مرضه، قد سمح لعقله الواعي ببعض الشيء.. ولكن حتى هذا اللحن خرج فقيراً في إنسانيته.. خالياً من كل نفحة حياة.. لأن هذه الشعلة المقدسة التي تلهب الإبداع الموسيقي بانفعال الحياة.. قد انطفأت بعد أن أصبح العقل عليلا، والإحساس وهماً.. قد يقترب من الحقيقة والواقع لحظة، ولكنه يبعد عنها سنوات.. وفي المكتبة القومية بفيينا.. توجد صفحتان من مدوناتف بخطف يد المؤلف الألماني العظيم “أوجوفولف” الذي عاش فترة من حياته في مستشفى الدكتور- “سفتلتج” للأمراض العقلية.. وقد قرر علماء النفس الموسيقيون أن حالته تماثل حالة شومان.. فأعماله وهو مريض بدائية فقيرة.. مهزوزة.. بينما كان يعتقد أنها.. إلهام إلهي نادر.. هذا هو نتاج العقل الباطن الذي يعمل بدون تنسيق من عقل واع صحيح.. بل مع ذاكرة مختلة وذكاء مهدم. أما المؤلف التشيكي القومي العظيم “سميتانا” فقد كانت حالته تثير الأسى.. لأنه عاش العشر سنوات الأخيرة من حياته أصمّا – مثل بيتهوفن – ولكنه في العامين السابقين لوفاته، فقد عقله، وحاول أن يكمل أحد أعماله التي كان قد بدأها قبل مرضه، وكتب لأحد أصدقائه: (إنني أكتب الموسيقى الآن لسبب واحد فقط.. وهو أن يعرف الناس ماذا يمكن لمختل مثلي أن يكتب وحتى يكون ذلك تسجيلا مفيدا لغيري”.. وبالطبع .. فإن الصفحة الأخيرة من هذا العمل الذي كان أوبرا “فيولا” .. هي تسجيل بشع لنهاية موسيقي عظيم.. فقد كان لا يفهم النص الشعري.. ولا يعرف هل يكتب عملا للأصوات أم للآلات. الخلاصة.. هي أن الموسيقى فن العقلاء.. بل هي قمة الفكر، ولذلك فهي قمة الشعور والأحاسيس.. فلا يوجد إحساس ولا عاطفة إلا وخلفهما عقل محرك واع سليم.. وطالما قرر “برامز”- الذي عاش في القرن التاسع عشر.. عصر الرومنتيكية- أن الموسيقى هي فن العقل فقط .. وبالفكر والتحكم العقلي.. تحمل الموسيقى إمكانيات العلوم.. التي هي هرمونيات جميلة معبرة.. وإيقاعات نابضة بالحياة.. وقوالب معمارية متناسقة، وألوان أوركسترالية عميقة.. رائعة.. أي أنه بالفكر وحده تغني الموسيقى نداء القلب وأنشودة السلام.. وقبل أن ننتقل إلى موضوع جديد يرتبط أيضا بالموهبة والإلهام وصفة الكتابة الموسيقية أرجو أن أشير إلى أساس الإلهام وأساس الوحي – لو جاز التعبير- وهو الخيال. فالمؤلف الموسيقي يتمتع بخيال خصب يجعله يرسم بخياله اللوحات الموسيقية ويستمع إليها داخليا، في يقظته وفي نومه ودون أن يستعين بآلة موسيقية. وهذا الخيال هو بالفعل حالة دائمة مستمرة ترافق الفنان وتظل معه حتى تتبلور خيالات المؤلف فيما يسمى بالإلهام الذي يؤدي إلى إبداع المؤلفات الموسيقية. ومن المهم أن أوضح أن الدراسة والعلم والحالة الذهنية الصحيحة هي التي تؤدي إلى الخيال الخصب، لأن الخيال يرسم صوراً ويضع تخطيطاً للمؤلفات، وينتقي القفلات وذروة الانفعال ويؤدي إلى الرنين والاستماع الداخلي، ويحول صورة الطبيعة إلى عالم هائل من الأصوات، ويبني من الموسيقى ذروة اتصال وإلهام وإبداع، ولا يمكن أن يكون كل ذلك جميلاً وسليماً إلا إذا كان العقل يحتفظ بخبرات سابقة مدروسة ومنظمة، فالخيال الإنساني صورة متجددة لما يستدعيه العقل من الخبرات المختزنة في اللاشعور. فالشيء بالشيء يذكر، وأحياناً يذكر الشيء بنقيضه، فيعمل الخيال الصحيح من منطلق العقل الصحيح والعلم والمنطق الذي ينظم الأحداث والرؤى في الخيال ويؤدي إلى لحظة الإلهام، وهي لحظة تتبلور فيها المشاعر والخيالات المحكومة بالخبرات السابقة وبالذاكرة، إنها عملية شديدة التعقيد في تفسيرها، ولكنها بسيطة عبقرية ملهمة بالخيال الموسيقي المتموج في كيان المؤلف والعازف والمستمع. وكما أن العقل السليم في الجسم السليم، فإن الخيال السليم لا يكون إلا بالعقل السليم والعلم. | |
|