في رحلة بحث الإنسان عن حقيقته عبر الزمن أثبت الفلاسفة أن الإنسان في حاجة إلى الآخر لتحديد انيته و تحقيق ذاته ووجوده ضمن العالم. و استجابة لهذه الحاجة للآخر اعتمد الإنسان مجموعة من الأنظمة التي تمكنه من التواصل مع الآخر، تعرف هذه الأنظمة بالأنظمة الرمزية و هي وسائل تواصل اتخذت أشكالا متعددة كالدين و اللغة و الصورة و تهدف إلى تحقيق التواصل بين الأفراد. و لكن هذه الوسائل تطورت مع تطور الإنسان فأصبحت تشكل عنفا رمزيا قد يضاهي العنف المادي أو قد يكون أخطر منه.
فكيف أصبحت وسائل التواصل وسائل عنف؟
أيهما يشكل خطرا أكبر؟ أهو العنف المادي أم العنف الرمزي؟
كيف يمكن أن نتجاوز هذا الخطر؟
إن النظر في هذه المسألة يقر بفشل الأنظمة الرمزية في تحقيق دورها المنشود و أنها أصبحت عائقا أمام التواصل. بالتالي نحن مطالبون بالحد من العنف بجميع أشكاله من خلال نقد الأوضاع و إيجاد الحلول.
لا يخفى على المتأمل في واقعنا المعيش أن العنف أصبح منتشرا بين أفراد جميع الفئات الاجتماعية و يشمل جميع الميادين الحياتية. فالعنف المادي أصبح عادة اجتماعية متجذرة فينا و أصبح هو الوسيلة المثلى لتحقيق الرغبات و المطالب.
و العنف المادي هو إلحاق أضرار مادية بالآخرين من خلال الاعتداء بالضرب أو استخدام السلاح كما يمكن أن يكون اعتداء على أملاك الآخرين بطريقة مباشرة وهو وسيلة معتمدة لاغتصاب الحقوق و ارهاب الغير. و انطلاقا من هذا المبدأ يلحق العنف المادي أضرارا خطيرة بالأفراد على المستوى الجسدي كالإصابات والكسور و على المستوى النفسي كالخوف و الكره و الخضوع. بالتالي فان العنف المادي يكرس العداوة و القطيعة و الحقد بين الأفراد فيصبح بذلك عائقا رئيسيا أمام التواصل فهو يفرق بين الناس و يدعو إلى المواجهة المباشرة العنيفة عوضا عن الحوار الذي يمثل الركيزة الأساسية للأنظمة الرمزية.
يمكن أن نسلم بأن العنف المادي من أخطر العوائق أمام التواصل الإنساني فهو المصدر الأساسي للخصومات و المعارك.
و لكن هل يعتبر هذا العنف هو الأخطر من بين أشكال العنف المعتمدة اليوم؟
اتخذ العنف اليوم أشكالا أكثر تطورا و أكثر "جمالا" فلم يقتصر على العنف المادي الجسدي المباشر بل أصبح يعترضنا أينما ذهبنا و أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. إنه موجود معنا في تعاملاتنا اليومية فيسلط علينا و لانعي به. أصبح العنف ميزة الأنظمة الرمزية و هو ما يسمى بالعنف الرمزي أي ذلك العنف الذي تمارسه علينا وسائل التواصل.
و يتمظهر هذا العنف في جل الوسائط الرمزية و يتخذ أشكالا متنوعة و ملتوية تدعمها و تساعد على نشرها وسائل الاتصال. فنجد مثلا في مجال الصورة مشاهد عنيفة تصور الحروب و المعارك و الدماء و الضحايا و الأشلاء فتمارس بذلك ضغطا علينا يكرس فينا الخوف و الرهبة و التبعية. كما يدعم المشهد الإعلامي هذه النزعة من خلال اعتماد الإشهار للترويج للمنتجات و رغم ما تبدو عليه هذه الصور من جمالية و إبداع فإنها أقوى أشكال العنف الرمزي الذي يمس الجانب اللاواعي من الإنسان فتكرار نفس المشاهد و نفس الكلمات بصورة متتالية أو ما يعبر عنه بالفرنسية "le matraquage "
يجعلنا خاضعين لتلك الصور و منقادين بها و هو ما يحقق مصالح الرأسمالية للحث على الاستهلاك.
و لم يسلم الدين أيضا رغم قداسته من اعتماده سلاحا لمحاربة الغير و الاعتداء عليهم. و يتشكل العنف الديني في الإرهاب و التعصب و التطرف الذي أصبح ردة فعل طبيعية لما يلحق المقدسات من مس بحرمتها و قدسيتها فانتهاك حرمة المساجد و حرق الكنائس يعتبر اعتداء على إنسانية الأفراد و كرامتهم و هذا العنف يولد ردة فعل مقابلة قد تكون أعنف من الأولى.
و يمكن أن تتبين أن العنف قد اتخذ أشكالا خفية تلمس فينا جوانبنا اللاواعية فترسخ فينا و تصبح مقبولة في مجتمعاتنا فلا نصدها و لا نحاربها. فالصور الخليعة و الكلام البذيء في المشهد الإعلامي لم تعد تعتبر مسا بالحياء و الأخلاقيات نظرا لتعودنا عليها. إذن فالعنف الرمزي الذي تمارسه علينا أنظمة التواصل و الذي تدعونا إليه من خلال إثارة جوانبنا الإنسانية و المس من معتقداتنا و تقاليدنا و خصوصيتنا اتخذ أشكالا خفية لا تظهر للجميع و لا يفهمها عامة الناس. حيث ترسخ و تتجذر فينا دون وعي منا و بالتالي لا نتمكن من إيقافها و الحد منها.
و نظرا لقدرة الأنظمة الرمزية على التعبئة و جمع الناس حول نظام رمزي معين كاللغة و الدين يصبح العنف المادي هو النتيجة المباشرة للعنف الرمزي المستبطن، فعند أول صدام بين يهودي و مسلم يسترجع المسلم مشاهد القتل و الدمار و الحرب في فلسطين التي بقيت مخزنة في لاوعيه و يعبر المسلم عن عداءه و حقده على ذلك اليهودي باستخدام العنف المادي الذي يتمظهر في الإرهاب و الحروب بدافع الانتقام. و بالتالي يتأكد فشل الأنظمة الرمزية في تحقيق غايتها الأساسية وهي تحقيق التواصل و الانسجام و نشر قيم الأخوة و التفاهم بين الشعوب و على عكس ذلك تربي الوسائط الرمزية الفرد منذ الصغر من خلال الألعاب الالكترونية و الأفلام مثلا على العنف. فتنمو بذلك الكراهية و الحقد في ذهن الفرد و تكمن منتظرة فرصة لتظهر للغير فتبرز من خلالها سوء الوضع الذي يعيشه العالم في ظل أزمة التواصل و هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان العنف المادي هو نتيجة مباشرة للعنف الرمزي و بالتالي يعتبر أقصى مظاهر العنف أم أن العنف الرمزي ينطلق من واقعنا المشبع بالعنف المادي ؟
ولكن المسألة الأهم و الأكثر إلحاحا في عالمنا المعاصر ليست مسألة المصدر أو النتيجة بل هي مشكلة فشل الأنظمة الرمزية في لعب دورها المطلوب و ما ينجر عنها من أشكال للعنف.
فالعنف المادي و العنف الرمزي يشكلان خطرا جسيما على المجتمعات و الشعوب و بالتالي يشكلان عائقا أمام التطور البشري الذي يرتكز على التواصل و الحوار و النقاش. و هذا العائق يتسبب في خلق أزمة تواصل عالمية عجزت فيها وسائل التواصل رغم تعدد و سائل الاتصال عن جمع البشرية حول قيم موحدة أساسها الأخوة و التسامح و السلام.
و في ظل هذه الظروف وجب على الأفراد أن يتبصروا و يعملوا عقولهم في ما يدور حولهم حتى لا يقعوا في فخ الأنظمة الرمزية كما يجب أن يكتسب الإنسان، ذلك الحيوان الرامز، بعدا نقديا فلا ينخدع ب"براءة الوسائط الرمزية" و لا يصبح فريسة سهلة في يد أصحاب السلطة و القرارات الذين يرغبون في تسيير العالم وفق رغباتهم و مخططاتهم تحت شعار "العولمة" التي ما فتئت تدعم الاغتراب و التبعية و الخضوع.
كما يجب تدعيم قيم التسامح و نبذ العنف و التطرف انطلاقا من العائلة و من البرامج التعليمية حتى يتحصن الفرد من خطر العنف.
إن العالم اليوم يشهد أزمة حقيقية لا يمكن إنكارها و قد أدت هذه الأزمة إلى تدهور الأوضاع لأن كلا من العنف المادي المباشر و العنف الرمزي يشكلان خطرا حقيقيا على الشعوب وهو ما يجب اتخاذ إجراءات تجاهه. و هذا الخطر يشكل دعامة من دعائم أزمة التواصل التي يجب تجاوزها للدفع بالبشرية إلى التطور.
و لكن رغم وجاهة السؤال المطروح للنقاش فان الإجابة عنه تخلق مشكلا أكبر و هو إمكانية تجاوز هذا العنف سواء وقع اعتباره سببا أم نتيجة . و هل أن الأنظمة الرمزية في حد ذاتها هي سبب أزمة التواصل؟ أم أننا نعيب عليها و العيب فينا، نحن الذين لم نعرف كيف نوظفها و لم نحسن استغلالها؟