ملخص البحث:
أمرنا الحبيب مُحمد صلي الله عليه و سلم بإطفاء المصابيح بالليل, و بعد سنوات عديدة من البحث العلمي حول تأثير الضوء علي الإنسان و البيئة, قال العلم صدق رسول الإسلام, فإظلام المصابيح إعجاز نبوي يقي الإنسان و بيئته من التلوث الضوئي الذي ينشأ من التعرض الزائد للضوء في الليل.
النص المعجز:
حذرنا الحبيب صلي الله عليه و سلم من خطر المصابيح إذا تركناها موقدة عند النوم و ذلك في عدد كبير من الروايات, منها ما ذكر علة التحذير و هي الخوف من الاحتراق بنارها, و منها ما جاء بدون ذكر لعلة الأمر بإطفاء المصابيح لتعم النصيحة و الرحمة النبوية كل المخلوقات في كل زمان و مكان:
أولا: الروايات التي ذكرت علة إطفاء المصابيح عند النوم (الخوف من النار)
الرواية الأولي:
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا تَتْركوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُون) متفق عليه.
الرواية الثانىة:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُم) رواه البخاري.
الرواية الثالثة:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ كَثِيرٍ هُوَ ابْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خَمِّرُوا الْآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْت) رواه البخاري.
الرواية الرابعة:
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلي الله عليه و سلم قال (غطوا الإناء ، وأوكوا السقاء ، وأغلقوا الباب ، وأطفئوا السراج . فإن الشيطان لا يحل سقاء ، ولا يفتح بابا ، ولا يكشف إناء . فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ، ويذكر اسم الله ، فليفعل . فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) رواه مسلم.
الرواية الخامسة:
عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أغلقوا الباب وأوكوا السقاء وأكفئوا الإناء أو خمروا الإناء وأطفئوا المصباح فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم) رواه مالك في موطأه و الترمذي في سننه و صححه الألباني.
الرواية السادسة:
5247 - حدثنا سليمان بن عبد الرحمن التمار ثنا عمرو بن طلحة ثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال (جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم فقال " إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم ") رواه أبو داود في سننه و صححه الألباني.
ثانيا: الروايات التي لم تذكرت علة اطفاء المصابيح عند النوم
الرواية الأولي :
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ) رواه البخاري.
الرواية الثانية:
حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا استجنح الليل أو قال جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا ) رواه البخاري.
الرواية الثالثة:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم) متفق عليه.
* بعض شروح الأحاديث
قال بن حجر في فتح الباري نقلا عن القرطبي (الأمر والنهي في هذا الحديث للإرشاد، قال: وقد يكون للندب، وجزم النووي بأنه للإرشاد لكونه لمصلحة دنيوية، وتعقب بأنه قد يفضي إلى مصلحة دينية وهي حفظ النفس المحرم قتلها والمال المحرم تبذيره. و في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها ما يؤمن معه الاحتراق، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوما، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفا ولأدائها تاركا. ثم أخرج الحديث الذي أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال " جاءت فأرة فجرت الفتيلة فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا نمتم فأطفئوا سراجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فيحرقكم " وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضا وبيان الحامل للفويسقة - وهي الفأرة - على جر الفتيلة وهو الشيطان، فيستعين وهو عدو الإنسان عليه بعدو آخر وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم).
ونقل بن حجر قول ابن دقيق العيد ( إذا كانت العلة في إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن الفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج. وأما ورود الأمر بإطفاء النار مطلقا كما في حديثي ابن عمر وأبي موسى - وهو أعم من نار السراج - فقد يتطرق منه مفسدة أخرى غير جر الفتيلة كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة فينثر السراج إلى شيء من المتاع فيحرقه، فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمن معه الإحراق فيزول الحكم بزوال علته).
* قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ( وأطفئوا مصابيحكم ) اذهبوا نورها ولا يكون مصباحا إلا بالنور وبدونه فتيلة والمراد إذا لم تضطروا إليه لنحو برد أو مرض أو تربية طفل أو نحو ذلك والأمر في الكل للإرشاد وجاء في حديث تعليل الأمر بإطفاء المصابيح بأن الفويسقة تجر الفتيلة فتحرق البيت وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أشفق على أمته من الوالدة بولدها ولم يدع شفقته دينية ولا دنيوية إلا أرشد إليها. وقال القرطبي : تضمن هذا الحديث أن الله أطلع نبيه على ما يكون في هذه الأوقات من المضار من جهة الشياطين والفأر والوباء وقد أرشد إلى ما يتقي به ذلك فليبادر إلى فعل تلك الأمور ذاكرا لله ممتثلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم شاكرا لنصحه فمن فعل لم يصبه من ذلك ضرر بحول الله وقوته .
ملاحظات مهمة حول الأحاديث (خصوصا علة إطفاء المصابيح عند النوم):
أولا : تكرار التحذير النبوي من النار و المصابيح و السُرُج بروايات مختلفة و في مواقف مختلفة, يدل علي أن من عادة العرب في زمن النبي صلي الله عليه و سلم عند النوم ترك المصابيح موقدة و خاصة في فترة الليل, و ذلك لمنافع عديدة منها إذهاب وحشة الصحراء و الاحتماء من حيوانات الصحراء التي قد تهاجمهم في الليل و للتدفئة, فبين لهم النبي صلي الله عليه و سلم أن هذه عادة غير سليمة لما فيها من أضرار ظاهرة كما بين في بعض الروايات التي ذكرت الاحتراق بالنار, و أرشدهم صلي الله عليه و سلم إلي ما هو أنفع بإغلاق الأبواب لحصول الأمان, و إطفاء النيران لتوقي شرها.
و في عصرنا الحديث استبدلنا مصابيح النار بالمصابيح الكهربائية, و صرنا أحرص من العرب في زمن النبي صلي الله عليه و سلم علي إنارة المصابيح في ظلمة الليل, بل ان هناك مناطق بأكملها كبعض المدن الحديثة تحيل الليل إلي نهار من كثرة المصابيح المضاءة في ظلمة الليل, فهل الأمر النبوي (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ) ينطبق علي مصادر الضوء في زماننا أم لا, هذا ما سوف نراه في النقطة التالية بإذن الله تعالي.
ثانيا: شُراح الأحاديث قالوا بأن علة إطفاء المصابيح هي الخوف من ضرر النار الذي قد يحدث بسبب الفويسقة أو بغير سببها, فإذا انتفت العلة أمكن ترك المصابيح موقدة في الليل.
و نلاحظ هنا أن شُراح الأحاديث لم ينتبهوا إلي أن النار و المصباح و السراج, ليست فقط مصدر للحرارة و النار, و لكنها أيضا مصدرا للضوء, و لكن لأنهم لم يكونوا علي علم بأن الضوء قد يضر في بعض الأحيان, فتوهموا أن العلة الوحيدة لإطفاء المصابيح هو الخوف من النار, مع أنه أمر يعلمه الصغير قبل الكبير, و لو كان الضرر الوحيد من المصابيح و السراج هو النار و أمكن الاحتراز منه بوسيلة ما لبين النبي صلي الله عليه و سلم ذلك, فكان صلي الله عليه و سلم قادر علي أن يقول احترزوا من نار المصابيح, أو ضعوها في أماكن لا تصل إليها الفويسقة, و لكن لعلمه صلي الله عليه و سلم أن ضرر المصابيح أكبر من علة النار, فقد شدد علي الأمر بإطفائها في الروايات المطلقة التي لم تذكر علة النار و التي أتت علي سبيل العموم (أطفئوا المصابيح).
و حين حذر النبي صلي الله عليه و سلم من النار كان يعلم أن الناس بجبلتهم يحذرون منها و يجتهدون في اتقاء شرها, فالنبي صلي الله عليه و سلم لم يكن ليوضح الواضحات, و لذا فقد حذرهم من أمر غيبي لا يخطر لهم علي بال, ألا و هو تسلط الشيطان عليهم فقال " إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم ", أي أن الشيطان قد يدل الفويسقة علي السراج فتوقعه و تسبب الضرر لأهل هذا البيت بالرغم من أنهم قد بالغوا في الاحتراز من خطر النار بوضع السراج في المكان الآمن.
أيضا حين أطلق النبي صلي الله عليه السلام التحذير من النار و المصباح و السراج دون ذكر لخاصية الإحراق فقال صلي الله عليه و سلم (لا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُون), و قال (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ), فمؤكد أنه صلي الله عليه و سلم يدل أمته بالقدر الأكبر علي ما غاب عنهم من المنافع و المفاسد, فالعرب كلها تعلم بخطورة النار, و لكن العرب لا تعلم بمخاطر الضوء المنبعث من النار و المصباح.
و لما كان المعصوم عليه الصلاة و السلام لا ينطق عن الهوى, فلابد أن الروايات المطلقة التي لم تحدد العلة أتت لتبين أن هناك علل أخرى لإطفاء المصابيح غير النار, لكي يكون أمره صلي الله عليه و سلم صالحا لكل زمان و مكان, فذكر النار و الإحراق في بعض الروايات لأنها العلة المعروفة في زمنه, ثم أطلق الأمر بدون ذكر للإحراق, ليكون أمره شاملا لكل علة قد تظهر للبشر في كل عصر من العصور التي تلي عصر النبي صلي الله عليه و سلم . فكلما ظهرت للمصابيح أضرار غير النار, كان الأمر النبوي(أطفئوا المصابيح) حاميا من كل ضرر ظاهر كالاحتراق بنارها, أو ضرر غير ظاهر كالتعرض الزائد لضوئها في الليل كما سوف نبين في هذا البحث بإذن الله تعالي.
لذلك فإننا لا نستطيع أن نقول أنه بانتهاء علة الخوف من الاحتراق بالنار المذكورة في بعض الروايات أننا نستطيع أن نترك العمل بالحديث عند التعامل مع المصابيح الكهربائية أو غيرها من وسائل الإضاءة الحديثة, لأن هناك روايات أخرى أتت علي سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح) و لتدل علي وجود علل أخرى غير النار, و التي قد تظهر في المستقبل و ليس لعلة النار فقط.
ثالثا: مما يؤكد علي صحة ما ذهبت إليه من أن لإطفاء المصابيح عند النوم علل أخري غير النار كعلة الخوف من ضوئها, أن ظلمة الليل سنة كونية أكدت عليها الشريعة الإسلامية في أكثر من موضع و منها قوله تعالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, و عليه فالروايات التي أتت علي سبيل العموم لتشمل كل أنواع الإضاءة (أطفئوا المصابيح), قد جاءت لتؤكد علي أهمية تحقق الظلمة في الليل لغرض النوم و لأغراض أخري سوف نبينها في هذا البحث بإذن الله تعالي.
رابعا: أتي الأمر النبوي مرة بإطفاء النار و مرة بإطفاء السراج و أخرى بإطفاء المصابيح, و لا تعارض بينها لأنه في وقت و عصر المصطفى عليه الصلاة و السلام كان السراج أو المصباح على هيئة شعلة من النار (فتيلة توقد بالزيت). فحينما أراد النبي صلي الله عليه و سلم التحذير الخاص من الاحتراق من المصابيح استخدم كلمة النار, و عندما أراد تعميم التحذير من كافة أشكال الإضاءة التي تعتمد علي النار و علي غير النار استخدم صلي الله عليه و سلم كلمتي المصابيح و السُرُج, و معروف أن كلمة مصباح تستخدم لكل ما يستضاء به قال تعالي {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ }الملك5. و كذلك كلمة سراج تستخدم للاستضاءة كما في قوله تعالي {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }نوح16.
و إطفاء المصابيح أو السُرُج معناه تغطيتها عن الهدف الذي تضيئه بالإضافة إلي إخماد نارها إن كان لها نار.
خامسا: غالب الروايات ربطت بين إطفاء المصابيح و بين الرقاد (النوم), و إن لم يُذكر الرقاد صراحة فى بعضها و لكنه يُفهم من السياق, و لكن بعض الروايات لم تربط بين إطفاء المصابيح و النوم, و قد يكون ذلك لهدف مقصود, فحتى عندما يأتي الليل (فترة السكون ) يفضل إطفاء السراج و لو لم يُرد الإنسان النوم في هذا التوقيت, و ذلك لأن التعرض المستمر للإضاءة بالنهار و الليل قد تنتج عنه أضرار صحية كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة كما سوف نري في هذا البحث بإذن الله تعالي, و للحماية من هذه الأضرار ينبغي التعرض لفترة معينة من الظلام حتي و لو لم تكن هذه الفترة لغرض الرقاد (النوم).
سادسا: بعض الروايات خصت ذكر الرقاد في الليل و بعضها ترك الأمر على إطلاقه بدون تخصيص لفترة الليل, ليتبين لنا تعميم الفائدة من إطفاء السراج عند الرقاد في أي وقت بالليل أو النهار .
الهدف من البحث:
سنركز في الأحاديث السابقة على نقطة واحدة ألا و هي إطفاء السُرُج أو المصابيح عند النوم, و مع أن هناك العديد من الآيات التي تتناول أهمية النوم و السكن في الليل عملا بالسنة الكونية التي أجراها الله علي عباده {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } يونس67, وقال تعالى {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } النمل86, وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } غافر61, إلا أن هذه الآيات لم تنهانا عن التعرض لضوء السُرُج أو المصابيح عند النوم ليلا, فقد ألتزم بالسنة الكونية فأنام بالليل و أعمل بالنهار, و لكن أحب النوم ليلا في ضوء المصابيح, و أحب أن تكون كل شوارع المدينة مضيئة في الليل.
فجاء قول الله تعالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) 47 الفرقان, ليؤكد علي أهمية النوم في الظلام التام, فربط المولي تبارك و تعالي بين النوم السبات و بين جعله الليل لباسا, ليدل علي أهمية الظلمة التامة للحصول علي النوم السبات, قال الطبري في تفسيره (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً) أي سترا يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها.
و مع أن الآية السابقة بينت نعمة لباس الليل و أهمية هذه النعمة للنوم السبات, إلا أن هذه الآية أيضا لم تنهانا صراحة عن قطع لباس الليل بضوء المصابيح, و لما كان الإسلام هو دين الكمال الذي يدل الناس علي كل خير و ينهاهم عن كل شر, فقد جاءت السنة النبوية المكملة للقرآن بالنهي الصريح عن التعرض للمصابيح عند النوم في الليل (أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ ), و لم يكن النبي صلي الله عليه و سلم لينهانا عن شيء إلا لعلمه بأن له من الأضرار العاجلة و الآجلة أضعاف ما قد يحققه من النفع العاجل.
فهل أثبت العلم الحديث أن التعرض لضوء المصابيح في الليل له أضرار علي الإنسان و بيئته, و ما هي هذه الأضرار علي الإنسان و بيئته, هذا ما سوف نتناوله في هذا البحث بإذن الله تعالي.
الحقيقة العلمية :
يعتبر مصطلح التلوث الضوئي من المصطلحات الحديثة التي لم تكن في قاموس الإنسانية, و هو أحد أنواع الملوثات البيئية الحديثة التي تسبب فيها إنسان العصر الحديث, بسب الإسراف الزائد في استعمال الضوء الصناعي داخل و خارج البيوت, و في تحويل ليل المدن إلي نهار صناعي, مما أثر بالسلب علي الإنسان و بيئته.
فقد بدأت إضاءة الليل اصطناعياً بواسطة الكهرباء، تقلق طمأنينة الحياة, و تمزع لباس الليل الذي عهدته الكرة الأرضية منذ أن جعل الله الليل سكنا و النهار نشورا, و تعاقب الليل و النهار, وتآلفت الكائنات طبيعياً (وضمنها الإنسان) بهذا التعاقب الدوري، فسكنت الحياة ليلاً ، وازدهرت بسعي أغلب الكائنات الحية علي معاشها نهاراً.
و مع اكتشاف المصباح الكهربائي بدأ الخلل في ميزان التعاقب الدوري لليل و النهار, و تفاقم هذا الخلل حتى وصل ذروته في عصرنا الحديث بعد أن صمم الإنسان بجهل شديد علي إنارة كافة البيوت و التجمعات السكنية بشكل مبالغ فيه (صورة 1). و بعد عقود من الاستعمال الغاشم للإنارة الصناعية, ظهر للإنسان أن الإنارة الكهربائية بالرغم من كل ما لها من منافع إلا أنها لا تخلو من المساوئ, وظهر مصطلح «التلوث الضوئي» Light Pollution لوصف الآثار السلبية المترتبة على أنواع الإنارة الاصطناعية علي الإنسان و بيئته.
(صورة 1: صور الأقمار الاصطناعية، تظهر المدن الكبرى خلال الليل في هيئة آلاف النقاط المضيئة)
أضرار الافراط في الإضاءة
يتبع