لطالما ربط الإغريق بين الجمال والفضيلة، إذ كانوا أكثر شعوب الأرض، تقديراً واحتراماً للجمال، ولكل ما ارتبط به من فنون تبرز الموسيقى في مقدمة تفرعاتها، وهي حظيت بمكانة رفيعة لديهم، حسب ما تشير اليه معظم الدراسات والكتب التاريخية، فتمكنت من الانتشار بشكل واسع، وتأثروا بها كثيراً، إلى درجة أنهم فرضوا على كل فرد في المجتمع، ضرورة دراستها وتعلمها.
أدى التأثر بالجمال، وتصدر قيمه، ضمن الحضارة الإغريقية أو اليونانية، إلى جعلها من أكثر حضارات العالم تأثراً بالموسيقى، وبرعت في هذا السياق، وخلال مراحل تاريخها، في تقديم أنواع مختلفة من المقطوعات التي تذوب في النفس لشدة جمالها وروعتها. وقديماً كانت الموسيقى بمعناها الحديث منتشرة بين اليونانيين، بقدر انتشارها بيننا في هذه الأيام. ولشدة تأثرهم بالموسيقى، تحولت لديهم إلى أحد مستلزمات حياتهم اليومية، ولذلك نجد أنه كان لديهم ابتهالات لـ «ديونيسس» وتهاليل لـ «أبلو».
وكذا ترانيم لكل آلهة من آلهتهم. وتوسعوا في ذلك، إلى درجة أنه كان لديهم مدائح خاصة بالأغنياء وأغنيات للحب والزواج والحزن والوفاة، وللعاملين في مختلف مجالات الحياة، كما أولوا أغنيات الحماس أهمية خاصة، فأبدعوا في تقديم أغاني النصر لأبطال الرياضة. ولذا لا غرابة في أن يعتقد عدد من العلماء والباحثين بأن كلمة الموسيقى، يونانية الأصل، كانت تعني سابقاً، الفنون عموماً.
ولكنها أصبحت تطلق، فيما بعد، على لغة الألحان فقط، وعُرفت لفظة «موسيقى» على أنها فن الألحان، وقصد بها الصناعة التي يبحث فيها عن تنظيم الأنغام والعلاقات فيما بينها، وعن الإيقاعات وأوزانها، والموسيقى مثلت فنا يبحث عن طبيعة الأنغام من حيث الاتفاق والتنافر.
اهتمام بالموسيقى
نستطيع أن نلمس أثر العقيدة الموسيقية، في كل ما تركته لنا الحضارة اليونانية من أعمال أدبية ومن تحف فنية، حازت على اعجابنا جميعاً، ممثلة خاصة في تماثيل: هوميروس، سوفوكليس، منحوتات فيدياسن، براكسيتيليس، وغيرهم. ولكن اهتمام الاغريق بالفن المعماري والنحت، لم يتمكن من التغطية على اهتمامهم بالموسيقى.
والتي شغلت حيزاً كبيراً في حياتهم، إذ يبدو الإغريق شعباً موهوباً، لديه الكثير من الشعراء والفلاسفة والمؤرخين والمعماريين، والموسيقيين. والعجيب أن اليونانيين أنفسهم، أولوا فنونهم التشكيلية، اهتماماً أقل من ما أولوه لمنجزاتهم الموسيقية، حتى يكاد الأدب اليوناني الكلاسيكي، خالياً من المعلومات التي تدور حول النحت والعمارة الإغريقية.
فيما زخر بالحديث عن الموسيقى اليونانية. ولذلك فقد كانت حكومات اليونان بكل ما تحمله من تقدير لمكانة الموسيقى، تعد قواعد الموسيقى وتنظيمها من مهام الدولة، وتهب الموسيقيين مكانة مرموقة في مضمار الحياة، حتى انه كان يوصف الشخص المثقف الممتاز بأنه «موسيقي»، في حين قيل عن غير المثقف، إنه «غير موسيقي».
وبحسب الروايات التاريخية، فقد ورد أن الشاعر «بندار»: عازف المزمار البارع، امتدح ميداس الإجريجينتي، بالأسلوب نفسه الذي يمتدح به البطل الغازي. وكانت الموسيقى تشغل مكانة مهمة في الشعر، إلى الحد الذي جعل افلاطون يعتبر أن الشعر يكون هزيلاً، إذا تُلي نثراً وجُرّد من جمال الإطار الموسيقي، كما ذهب إلى أن الميلودي تتألف من ثلاثة عناصر، وهي: الألفاظ والهارموني والإيقاع.
وظل اتحاد الألفاظ بالموسيقى قائماً، حتى القرن السادس عشر، عندما ظهرت موسيقى الآلات التي تعزف وحدها، من دون وجود كلمات تصاحبها، والتي كانت مع ذلك تعزف ألحاناً غنائية قديمة أخذت الآلات فيها تترنم على النحو الذي كانت تترنم به الأصوات البشرية. ومن أبرز هذه النماذج «نشيد أبولو» الذي وُضع حوالي العام 300 ق.م، وتم اكتشاف أجزائه متفرقة، في معبد دلفي، ومن ثم أعيد ربطها وفق السياق المنطقي، خلال العام 1893م.
الغناء الجماعي
لطالما مثل الغناء الجماعي، أرقى أنواع الموسيقى في اعتقاد اليونان، وفي حياتهم العملية. وأكسبوا هذا النوع من الغناء، عمقا فلسفيا وتعقيدا في مستويات التركيب. وأخذت هاتان الصفتان تجدان مكاناً في الانواع السمفونية والمقطوعات الموسيقية.
وأوجد في كل احتفال، مكان لجوقة غنائية، وكانت المدن والجماعات المختلفة تقيم من حين إلى آخر، مباريات في الغناء الجماعي يتم التحضير لها قبل الموعد المحدد بفترة طويلة، فيعين مؤلف لكتابة الألفاظ والموسيقى، ويستأجر المغنون المحترفون، ويتم تدريب الجوقة بعناية بالغة، ليؤدوا نغمة واحدة.
وهو ما نشاهده حاليا في موسيقى الكنيسة اليونانية، وبالتالي فقد ابتعد اليونانيون عن الصوت المنفرد في الفرقة، وبقوا كذلك حتى قرون متأخرة، حيث بدؤوا في السماح لارتفاع أو انخفاض الصوت المصاحب قليلاً، طبقا للأغنية، وهو ما يوضح أن هذا كان أقرب ما وصل اليه اليونانيون في التوافق والألحان التوافقية البسيطة.
الآلات الموسيقية
لم يقف اهتمام اليونانيين عند حدود الغناء الجماعي، فهم ذهبوا بعيدا في اهتمامهم بالآلات الموسيقية التي كانت من النوع البسيط، وتقوم على الأسس التي نعتمدها في أيامنا هذه، ومن أبرز آلاتهم تلك: القرع (لم يكن واسع الانتشار)، النفخ (اعتمد فيه على آلة الناي التي كانت شائعة الانتشار في اليونان، واستخدموا الناي المزدوج)، وتم تطوير الناي وصولا الى ايجاد آلة القرب، البوق.
وكان العزف على الآلات الوترية، مقصوراً على شد الأوتار بالأصابع أو المنقر.
ولم يكن العازف ينحني في أثناء العزف. ووجدت أنواع مختلفة من القيثارات، صغيرة وكبيرة، ولكنها كانت في جوهرها شيئاً واحداً، فكانت كلها تتكون من أربعة أوتار أو خمسة، جميعها مصنوع من أمعاء الضأن، وهي مشدودة على قنطرة فوق جسم رنان من المعدن، أو صدفة سلحفاة. وكانت القيثارة صنجاً (كنجاً) صغيراً، يستخدم أثناء غناء الشعر القصصي. واستخدمت القيثارة اليونانية الصغيرة، مع الشعر الغنائي، ومع الأغاني بوجه عام.وربط الإغريق بين المقامات الموسيقية والحالات الشعورية، على نحو ما نربط نحن اليوم بين السلّمين: الكبير والصغير.
الموسيقى والرقص
ارتبط فن الرقص عند الإغريق، ارتباطاً وثيقاً بفن الشعر، وفن الموسيقى، إلى الحد الذي لا تكتمل معه صورة الموسيقى الإغريقية، من دون اعتبار الدور الذي كان يؤديه الرقص. والمرجح أن يكون الرقص قد نشأ بوصفه أحد الطقوس السحرية الدالة رمزيا على الغرائز، ثم انتقل إلى مجال التعبير الإيقاعي، مثلما انتقلت الأغنية من أنغام التعاويذ السحرية إلى صورتها الفنية المستقلة، مع احتفاظ الرقص ببعض آثاره الطقسية، حتى عصرنا الحالي. وقد ارتبط الرقص ارتباطاً أساسياً بالدراما الإغريقية التي تُعدّ أرقى وسائل التعبير في عقيدة ديونيسوس، حيث يعكف الكورس على إنشاد الشعر إلى جانب أداء الرقصات التي لم تقتصر على مجرد التلميح بالإيقاع، وإنما كانت تعبيراً متطوراً بإيماءات تفسر مضمون الشعر، كما كانت الدراما تُختتم برقصات مشابهة لمسيرة المواكب، وفقاً لإيقاع لحن المارش.
في الدراما والمسرح
مع أن الموسيقى، أدت دوراً مهماً في الدراما اليونانية، إلا أن هذا الدور لا يزال غامضاً، وإن كان من المعروف أن الكورس كانت له وظيفة غنائية في التمهيد للمشاهد المسرحية، وفي مصاحبتها، وكان يتألف أصلاً في مسرحيات «التراجيديا»، من اثني عشر فرداً، زادوا فيما بعد إلى الـ 15، في حين بلغ العدد في الكوميديا، 24 . وكان الممثلون يقومون بالغناء من وقت لآخر أثناء تأدية أدوارهم التمثيلية، بينما يستمر العزف على الأولوس خلال بعض أجزاء التمثيلية، بما يضفي على الدراما مسحة المسرحية الغنائية. وكان مزمار الأولوس هو الآلة المكلفة بالأداء الموسيقي المسرحي، ولم يكن يُستخدم منه في هذا المجال إلا آلة واحدة فقط، ولم يُستبدل قط بآلة الليرا في الأداء المسرحي.
ومع أن أدوار الكورس كانت قصيرة، إلا أنها كانت تشكل في مجموعها عنصراً أساسياً في الدراما، وكان إنشادها يستغرق وقتاً أطول من أجزاء تمثيل الحوار الكلامي.
وفي المقابل، تألقت الموسيقى الإغريقية في الأعمال المسرحية التي كانت تضم الموسيقى إلى الرقص والغناء الفردي والثنائي الجماعي، بل إن الأوبرا الحديثة لم تكن في البدء إلا محاولة من جماعة «كاميراتا» في فلورنسا عام 1600، لإحياء الدراما الإغريقية، غير أنها آثرت هذا الطابع الذي تتميز به اليوم.
وكان مؤلفو الدراما الأثينيون يضطلعون أيضاً بإعداد النص والألحان الموسيقية، وبتدريب المغنين والعاملين بالإخراج المسرحي، بل وبأداء أحد الأدوار المسرحية. وكانت مسرحياتهم غنائية تلعب الموسيقى الدور الرئيسي فيها، مثل: مسرحية «الضارعات» لإيسخولوس. وحتى المسرحيات التي يضطرم جوهرها الدرامي، مثل مسرحية عابدات باكخوس «باكانت» لأوريبيديس.
وكان المخرج لكي يؤجج انفعال المشاهدين، يدع الموسيقى تتسلم القيادة على نحو ما يحدث حين يفيض إحساس المرء إلى الحد الذي لا تسعفه معه الكلمات، فيلجأ إلى إصدار الأصوات المبهمة والإيماءات الغامضة، وهو ما اقتبسه فاغنر عن الإغريق وطبقه في دراماه الموسيقية. وقد ظلت جماعة الكورس تمثّل بؤرة التعبير الموسيقي والدرامي التي تنطلق منها العناصر الأخرى، حتى عدها نيتشه الشيء الواقعي الوحيد الذي تتولد عنه المرئيات الأخرى، والذي يعبّر بالرمز من خلال الرقص والنغم والكلمات.
ورغم التطور الحديث، واندثار حضارة الإغريق، إلا ان اليونانيين لا يزالون يولون الموسيقى اهتماماً خاصاً، وقد برز من بينهم مجموعة كبيرة من محبي الموسيقى الذين أبدعوا في تقديم مقطوعات موسيقية أبهرت العالم، ومن أبرز هؤلاء الموسيقار ياني الذي يتمتع بقدرات فنية عالية، لدرجة أن البعض اعتبره ظاهرة موسيقية، بعد ان تمكن من ملامسة قلوب محبي الموسيقى بما قدمه من مقطوعات رائعة، واحتار الكثيرون به وبروعة موسيقاه وبأسلوبه الفريد.
وقصة ياني مع الموسيقى بدأت عندما ترك موطنه في عام 1972 ليلتحق بجامعة مينوسوتا الأميركية لدراسة علم النفس، وهناك اشترك مع فرقة روك تدعى كاميلون، وبدأ في تطوير اسلوبه الموسيقي الخاص، مستخدما البيانو والأورغ، ليبتكر أصواتا جديدة، وبعد تخرجه من الجامعة، في عام 1979، قرر أن يمنح الموسيقى كل وقته واهتمامه، وعلى الرغم من أنه لا يقرأ النوتة الموسيقية، تمكن من تأليف أعمال كاملة، تتميز بقدرتها على الذوبان في النفس. والى جانب ياني، عرف العالم الموسيقار اليوناني فينجيليس، الذي تمكن بموسيقاه من غزو قلوب محبي الموسيقى، فخلال مسيرته الفنية والتي استمرت أكثر من 30 عاماً، تمكن من إبهار العالم بإنتاجه وابداعاته، والتي تلقى عليها العديد من الجوائز.