موسم الخيرات قد أقبل
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خصّ شهر رمضان بمزيد الفضل والإكرام، أحمده وأشكره على إحسانه العام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ تفرّد بالكمال والتمام، شهادةً مبرّأةً من الشرك والشكوك والأوهام، أرجو بها النجاة من النار والفوز بدار السلام، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، وأتقى وتهجّد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه هداة الأنام، ومصابيح الظلام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس:
اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخيرات وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظموا تلك المواسم وأقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم.
عباد الله:
يستقبل المسلمون في هذه الأيام وافداً حبيباً، طالما انتظرته القلوب المؤمنة، وتشوقت لبلوغه النفوس الزاكية، وتأهبت له الهمم العالية، وافد قد رفع الله شأنه، وأعلى مكانه، وخصه بمزيد من الفضل والكرامة، وجعله موسما عظيما لفعل الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وافد تواترت النصوص والأخبار بفضله، منوهةً بجلالته ورفعة قدره، ومعلنة عن محبة الله تعالى له وتعظيمه لشأنه. وافد قد يكلفك اليسير، ولكنه يجلب لك الخير الكثير والثواب الجزيل والأجر الكبير، إن أنت عرفت قدره، وأحسنت استقباله، وأكرمت وفادته، واستثمرته فيما يقربك إلى الله تعالى ويرفع درجاتك عنده.
أيها المسلمون: إنه ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185] إنه سيد الشهور وأفضلها على الدوام، إنه شهر القرآن والصيام والقيام، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا وفضيلة، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجان. شهر المغفرة والرحمة والعتق من النار، شهر الصبر والمواساة، شهر التكافل والتراحم، شهر التناصر والتعاون والمساواة، شهر الفتوحات والانتصارات، شهر ترفع فيه الدرجات، وتضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، شهر فيه ليلة واحدة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فهو المحروم. فهنيئا لكم أيها المسلمون برمضان، والسعد كل السعد لكم بشهر الصيام والقيام، ويا بشرى لمن تعرض فيه لنفحات الله، وجاهد نفسه في طاعة الله ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ولقد كان رسول الله - صلى الله علية وسلم - يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر المبارك، ويبين لهم فضائله، حتى يتهيئوا له ويغتنموه. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: (كان النبي - صلى الله علية وسلم - يبشر أصحابه، يقول: (قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) ، فدل هذا الحديث على مشروعية التبشير برمضان، وتهنئة الناس بعضهم بعضا بحلوله. قال ابن رجب رحمه الله: (وكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ وكيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان، ومن أين يشبه هذا الزمان زمان؟). وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله علية وسلم - قال: (إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين) وزاد في رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما: (وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة). فهذ شهر لا تُحصى فضائله ولا يُحاط بفوائده.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على بعض خصائص هذا الشهر وفضائله فهو شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وذلك لكثرة ما يعمل فيه من الخير والأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة، ولقلة ما يقع فيه من المعاصي والمنكرات التي هي سبب لدخول النار. وتفتح أبواب الجنة أيضا ترغيباً للعاملين في استباق الخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات، فهذا أوان الجد والاجتهاد، وهذا هو وقت العمل والجهاد، وأن يُري المسلم ربه من نفسه خيراً، والموفق من وفقه الله، والمحروم من حرمه الله. وتغلق أبواب الجحيم، ترغيباً للعاصين المفرطين في جنب الله، أن يتوبوا ويعودوا إلى الله، وأن يُتبعوا السيئات بالحسنات، التي تزيل آثار الذنوب من القلوب، وتمحوها من ديوان الحفظة، فإن الحسنات يذهبن السيئات، والخير يرفع الشر، والنور يزيل الظلمة، والمرض يعالج بضده.
وفي هذا الموسم تصفد فيه الشياطين، أي تغل وتوثق، وتقيد بالسلاسل والأصفاد، فلا يصلون فيه إلى ما يصلون إليه في غيره. ولا يتمكنون من إغواء عباد الله وإضلالهم كما يتمكنون منهم في غيره. لكن هناك نفوسا شريرة قد تأصل فيها الشر، وتشربت الباطل، واستمرأت الفساد، وأسلمت للشيطان القياد، فأبعدها عن كل خير، وحرمها من كل فضيلة وبر، وساقها إلى كل رذيلة وشر، فلا تعرف لهذا الشهر حرمة، ولا تقدر له مكانته وفضله، ولا تعظم شعائر الله، ولا ترجو لله وقارا!! بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يكون أسبق من الشيطان في الشر والإفساد.
وقد سمعنا عن أناس لا يبالون بالفطر في رمضان، وربما جاهروا بالفطر بين أولادهم وأهليهم، ومنهم من لا يتورعون فيه عن فعل المنكرات والقبائح، والموبقات والكبائر، بل لربما اجتمع بعض هؤلاء الممسوخين، المطموس على قلوبهم ليالي عشر الأخير من رمضان، التي هي أفضل ليالي الدهر، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فيسهرون على اللهو والغناء، وشرب الخمر وارتكاب الزنا، نسأل الله العافية والسلامة، ونعوذ به من عمى البصيرة ورين القلوب.
هذا موسمكم يا مسلمون هذا موسم العتق من النايران، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة). ألا يكفيكم أيها المؤمنون ما سمعتم من البشائر في هذا الشهر ألا يكفيكم أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: دخل رمضان، فقال رسول الله -صلى الله علية وسلم - (إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم) وقد حسب بعض العلماء ألف شهر فوجدوها تساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، مع أنها ليلة واحدة قد لا تزيد ساعاتها على عشر ساعات، لكن من وفق لإحيائها بأنواع الطاعات من صلاة وذكر، وصدقة وإحسان، وبر وقراءة قرآن، وغيرها، فكأنما ظل يفعل هذه الطاعات مدة تزيد على ثلاث وثمانين سنة، فيا له من فضل عظيم، وثواب وافر جزيل، ولا يحرم خيره إلا محروم. وأعلموا أن هذا الشهر من أرجى أوقات إجابة الدعاء، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: (لكل مسلم دعوة مستجابة، يدعو بها في رمضان)، وفي رواية صحيحة للبزار: (وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد).
أيها المسلمون: هذا موسم وشهر القرآن، ففيه تتأكد تلاوته وتدبره، وحفظه وتعاهده، والعناية به والعمل بما فيه، ففيه أنزل، قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]. فالقرآن يشكو الهجران هو الذي له حلاوه وعليه طلاوة ومع ذلك هجرناه.
وهذ موسم المغفرة والرحمات فعن النبي صلى الله علية وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر لها ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. وقوله: (إيمانا واحتسابا) أي: إيمانا بالله تعالى وبما أوجب من الصيام، ورضي بذلك واطمأن به قلبه، وانقادت له نفسه. واحتساباً، أي: امتثالاً لأمر الله، وطلباً للأجر والمثوبة من عنده، فهو لم يصم رياء أو سمعة، أو طلبا لعرض من أعراض الدنيا، أو عادةً وموافقةً للناس، واستيحاشاً من مخالفتهم والشذوذ عنهم.
وأعلمو أن العمرة فيه تعدل في أجرها حجة، بل تعدل أجر حجة مع النبي صلى الله علية وسلم ، حيث قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة) وفي رواية: (تعدل حجة معي) متفق عليه.
أيها الإخوة المؤمنون: إذا كانت هذه بعض خصائص هذا الشهر وفضائله، فجدير بكل مسلم موفق أن يفرح بقدومه، ويحسن استقباله، ويتعرض فيه للنفحات والرحمات، ويجتهد في فعل الخيرات، واستباق الباقيات الصالحات، وأن يبادر بالتوبة النصوح من جميع الذنوب والسيئات، فإن التوبة من آكد ما يُستقبل به هذا الشهر الكريم، وهي واجبة في كل وقت، ومن كل ذنب، ولكنها في مثل هذه المواسم الفاضلة آكد وأوجب، وصاحبها أحرى بالقبول والإجابة، وأن تكفر سيئاته، وتقال عثراته، بل أن تبدل سيئاته حسنات، فإذا اجتمع للعبد توبة صادقة، مع عمل صالح، في وقت فاضل، فهذا عنوان الفلاح والتوفيق، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82] وإذا لم يتب العاصي في هذا الموسم المبارك فمتى يتوب؟ وإذا لم يطلب رحمة الله وعفوه في هذا الشهر الكريم فمتى يفعل؟يقول النبي صلى الله علية وسلم : (رغم أنف من أدرك رمضان ثم خرج فلم يغفر له)، فمن حرم الخير في هذا الشهر فهو المحروم، ومن أدركه فخرج ولم يغفر له فهو المذموم، فسارع – يرحمك الله – إلى التوبة النصوح وقل ربي أني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين. أسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان وأن يوفقنا لإتمامه، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، ويجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الفائزين بأعلى الدرجات، وأن يغفر لنا ولوالدينا وسائر المسلمين والمسلمات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم. كتبت ما قلت وسمعتم، فالخير ما وفقت إليه، والشر ما أعرضت عنه والله نعم المولى ونعم النصير، واستغفر الله أن أقول عليه بلا علم، فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.